كثيرة هي التشكيلات الحكومية، وكثيرة هي الشخصيات التي تم توزيرها في السنوات الماضية. ولعل حالة عدم الاستقرار السياسي هذه وكثرة تغير الحكومات أدتا إلى عزوف الكثير من الكفاءات عن القبول بالمشاركة في الحكومة، خصوصاً مع الجو الموبوء في مجالس الأمة المتعاقبة وكثرة ممارسة النواب للابتزاز السياسي، بحيث صار من النادر أن نرى مشاركة الكفاءات في الحكومة. ولذلك كنا نتوقع أن يتم التشبث بهؤلاء الوزراء قدر الإمكان في حال وجودهم، لأنهم يعتبرون إضافة لا عالة على السلطة التنفيذية.

وللأسف الشديد، هذا ما لم يتم في الحكومة الحالية، حيث تم الاستغناء بسهولة عن وزير المالية مناف الهاجري، الذي أبدى شجاعة غير مسبوقة لم نرها في كثير من وزراء المالية المتعاقبين، لاسيما بعد تصريحه بأن البديل الاستراتيجي للرواتب لا يزال قيد الدراسة، ويجب ألا يؤدي إلى عزوف إضافي عن العمل في القطاع الخاص، وأن أي معالجة لهذا الأمر يجب ألا تؤثر على استدامة مالية الدولة وقدرتها على تمويل مشاريع أخرى.

Ad

جاء هذا التصريح عكس رغبات الأغلبية الساحقة من النواب، وقد يكون عكس رغبات بقية الوزراء أيضاً، وهذا هو المطلوب من أي وزير خصوصاً وزير المالية، وهو التصريح بالحقيقة وعدم مجاراة النفَس الشعبوي المسيطر على أغلب النواب.

الاستقالة جاءت بحسب الأخبار نتيجة لاعتراض الوزير الهاجري على نقل تبعية الهيئة العامة للاستثمار إلى وزير النفط والشؤون الاقتصادية، وهو محق بهذا الاعتراض، خصوصاً أن وزير المالية ــ بحسب القانون ــ هو رئيس مجلس إدارة الهيئة، وهذا يتطلب أن تكون الهيئة تابعة له لا لأي وزير آخر، لاسيما أن الوزير الهاجري له خبرة طويلة في مجال الاستثمار باعتباره كان رئيساً لإحدى الشركات الاستثمارية سنوات طويلة.

لكن أعتقد أن المسألة لا تقف عند هذا الحد، فقد تكون هناك أسباب أخرى للاستقالة، وقد تكون إحداها قبول دفعات الاحتياط بالداخلية والنفط لأسباب تبدو سياسية واضحة، وهو ما يعد استمراراً لسياسة تكديس المواطنين في القطاع العام، وهو ما ينافي ما صرح به الوزير الهاجري بشأن استدامة مالية الدولة والعزوف الإضافي عن العمل في القطاع الخاص.

المهم أن قبول الاستقالة يعطي إشارة بأن الحكومة لا تريد ضبط الانفلات في المالية العامة للدولة في وقت نحن في أشد الحاجة لضبطه، ولا تريد وزراء على قدر عال من المسؤولية ومستعدين لمواجهة الشعب بالحقائق المُرة، بل تريد وزراء يجارون النفَس الشعبوي الطاغي على مجلس الأمة، وهي سياسة ثبت فشلها مراراً وتكراراً.

فمجاراة المجلس وطلباته الشعبوية قد تكسب الحكومة بعض الوقت، لكنها لن تشجع إلا على مزيد من الطلبات غير المنطقية وغير المعقولة التي فيها زيادة مستمرة للمصروفات الجارية غير المستدامة، والتي لا تستطيع أي حكومة قبولها إلى ما لا نهاية، لأنه عندما تصاب الميزانية العامة للدولة بالعجر مثلما حصل في السنوات الماضية، فإن أول من سيغسل يده من هذا العجز هم نواب المجلس بالرغم من أنهم مساهمون، بشكل مباشر، في تحقيقه. بل سنراهم يهاجمون الحكومة ويتهمونها بالفساد مع أنها كانت سخية جداً في تلبية طلباتهم بالتوظيف الفائض عن الحاجة وزيادة المصروفات الجارية.

طبعاً هذا الوضع البائس الذي تتصرف فيه الأغلبية من السلطتين بدون أي مسؤولية ليس وليد اليوم، بل هو نتاج مباشر لتراكم السلبيات والاختلالات بالتجربة الدستورية الحالية، والتي شجعت على استفحال ظاهرة الشعبوية المدمرة، وتدهور مؤسسات الدولة ككل، في ظل مستقبل مقلق وغامض، في وقت تتهيأ فيه أغلب دول الخليج للمستقبل عبر تنويع الاقتصاد، وجذب الاستثمار الأجنبي، وتقليل حجم القطاع العام. ولا ندري متى يعي الجميع ذلك؟