أشهر قليلة كانت كافية لتغيير المشهد المرتبط بالتضخم في الولايات المتحدة جذرياً، لتتحول عناوين الصحف من «أعلى تضخم في 40 عاماً» إلى «أقل مستوى في أكثر من عامين».

ورغم تراجع الضغوط التي تعرض لها المستهلك الأميركي مع هبوط أسعار البنزين والبيض وغيرها من السلع الأساسية مقارنة بذروتها المسجلة قبل عام، فإن صناع السياسة النقدية لا يزالون يرون أن الوقت لم يحن بعد لإعلان الفوز في المعركة ضد التضخم.

Ad

التضخم يواصل التباطؤ

قالت هيئة إحصاءات العمل الأميركية، إن مؤشر أسعار المستهلكين ارتفع بنسبة 3% في شهر يونيو الماضي على أساس سنوي، هبوطاً من 4% في مايو، وبأفضل من التوقعات التي كانت تشير إلى تسجيل 3.1%.

وجاءت بيانات التضخم الأميركية بمنزلة مفاجأة سارة للأسواق المالية والمتابعين وصانعي السياسات، مع تسجيل أدنى مستوى منذ مارس 2021.

ومنذ تسجيل التضخم الأميركي ذروة 40 عاماً في يونيو 2022 عند مستوى 9.1%، فإنه واصل التباطؤ للشهر الثاني عشر على التوالي.

وعلى أساس شهري، ارتفع مؤشر أسعار المستهلكين الأميركي بنسبة 0.2% في يونيو، ما جاء أفضل من التوقعات البالغة 0.3%.

وأشارت البيانات الحكومية إلى أن تباطؤ التضخم جاء مع تراجع أسعار البنزين بنحو 27% في الاثني عشر شهراً المنتهية في يونيو، مع استمرار هبوط أسعار النفط.

بينما ارتفعت أسعار الغذاء ومتاجر البقالة بنسبة 5.7% و4.7% على التوالي خلال يونيو على أساس سنوي.

وفيما يتعلق بالتضخم الأساسي - الذي يستبعد أسعار الغذاء والطاقة سريعة التقلب - فإنه شهد تباطؤاً عند 4.8% في يونيو، وهي أقل وتيرة صعود منذ أكتوبر 2021، ومقابل 5.3% في مايو.

لكن على الجانب الآخر، لا تزال تكاليف الإسكان تمثل الجانب الصاعد في بيانات التضخم، مع صعود إيجار المنازل بوتيرة سريعة.

تحسن على جانب المعروض

ساهمت اضطرابات سلاسل التوريد على خلفية ظهور وباء «كوفيد 19» في الصعود السريع لمعدلات التضخم في الولايات المتحدة على مدى العامين الماضيين.

وأشارت دراسة حديثة صادرة عن بنك الاحتياطي الفدرالي في سان فرانسيسكو إلى أن الضغوط المرتبطة بسلاسل التوريد رفعت تكاليف المدخلات لإنتاج السلع وتوقعات المستهلكين بشأن ارتفاع الأسعار في المستقبل.

وتسبب الوباء في ارتفاع تكاليف الشحن والنقل العالمية بشكل حاد، مع زيادة الوقت اللازم للتسليم لمستويات تاريخية، مما أدى إلى ضغوط تضخمية كبيرة نتيجة نقص المعروض.

وشكلت هذه العوامل نحو 60% من صعود معدلات التضخم الأميركي الذي بدأ في مستهل عام 2021.

لكن تراجع الاضطرابات المتعلقة بسلاسل التوريد بشكل ملحوظ بداية من منتصف عام 2022 ساهم في تباطؤ التضخم الأميركي.

ومع تحسن المعروض بدعم تراجع اضطرابات سلاسل التوريد قرب مستوياتها التاريخية، انخفضت الضغوط السلبية على التضخم بشكل ملحوظ في الأشهر الماضية.

«الفدرالي» يكبح الطلب

بجانب تحسن ظروف المعروض، يبرز مجلس الاحتياطي الفدرالي كأحد أهم الأسباب وراء تباطؤ التضخم الأميركي لأدنى مستوى في أكثر من عامين.

ووضع البنك المركزي الأميركي التضخم كأولوية منذ بداية عام 2022، بعد أن اعترف عدد من مسؤوليه بخطأ التوقعات السابقة التي كانت تشير إلى أن تسارع التضخم أمر مؤقت لن يستمر.

ويترافق ذلك مع إدراك «الفدرالي» أن الخطر حقيقي، تحول لسياسة نقدية متشددة بشكل صارم، في مسعى للسيطرة على وتيرة ارتفاع الأسعار التي وصلت إلى ذروة غير مسبوقة في 40 عاماً.

ورفع الاحتياطي الفدرالي معدلات الفائدة 10 مرات متتالية منذ مارس 2022، لتصل من مستوى قرب الصفر إلى نطاق بين 5% و5.25% حالياً.

كما أقر الفدرالي تخفيض حيازته من سندات الخزانة والسندات المدعومة بالرهن العقاري بإجمالي 95 مليار دولار شهرياً، في إطار تشديد السياسة النقدية.

وانخفض المعروض النقدي في الولايات المتحدة بنسبة 4% على أساس سنوي، وهو ما يراه أستاذ الاقتصاد في جامعة جونز هوبكنز «ستيف هانكي» أمراً غير مسبوق منذ عام 1938 وتسبب في تغيرات في مؤشر الأسعار والتضخم.

رغم استمرار تباطؤ التضخم الأميركي خلال الاثني عشر شهراً الماضية، فإنه لا يزال أعلى مستهدف الفدرالي البالغ 2%.

واستفاد التضخم السنوي جزئياً من أثر الأساس، حيث تتم المقارنة بيونيو 2022 حينما شهدت أسعار المستهلكين أكبر قفزة منذ عام 1981 نتيجة الارتفاع القياسي لتكاليف الطاقة آنذاك.

ويسعى مسؤولو الفدرالي لتقييم التطورات المتعلقة بالتضخم الأساسي، خاصة الخدمات الأساسية.

وتشكل تكاليف العمالة وزناً أكبر في أعمال الخدمات من السلع، ما قد يظهر أثار سوق العمل المتشدد وارتفاع الأجور.

وتتوقع شركة «بيمكو» للاستثمار احتمالية تباطؤ مؤشر التضخم الرئيسي نحو مستهدفه 2% بحلول بداية العام المقبل، قبل أن يعود إلى التسارع بعد ذلك.

كما تعتقد الشركة أن التضخم الأساسي سيصل إلى نطاق 3% و3.5% بحلول نهاية هذا العام.

بينما ترى «إي إن جي» أن معدل التضخم الرئيسي السنوي قد يرتفع مجدداً في الشهرين المقبلين، بالنظر إلى أثر الأساس.

لكن شركة الأبحاث أشارت إلى أن التضخم السنوي الرئيسي قد يدور حول 2.5% بحلول نهاية العام الحالي، كما سيصل التضخم الأساسي إلى دون 3.5%.

وترى «جوليا بولاك» كبيرة الاقتصاديين في «زيبريكروتر»: «يرى بعض الاقتصاديين أن الجزء الأخير من خفض معدل التضخم سيكون الأصعب، لكن هذا قد لا يكون الوضع بالضرورة».

وأضافت: «أسعار المنتجين تنخفض بشكل واضح، توقعات التضخم تتباطأ، متوسط الدخل الأسبوعي يرتفع 3.75% فقط على مدار العام، إجمالي دخل العمل ينمو أبطأ مما كان عليه قبل ظهور الوباء».

ولا يتوقع الاحتياطي الفدرالي وصول مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي الأساسي - مؤشر البنك المفضل لقياس التضخم - إلى المستهدف حتى عام 2025.

وتشير توقعات البنك إلى أن متوسط مؤشر نفقات الاستهلاك الشخصي الأساسي سيبلغ 2.6% في العام المقبل، و2.2% في عام 2025.

هل تقترب نهاية التشديد النقدي؟

تشير الأسواق المالية إلى احتمالية شبه مؤكدة لرفع معدلات الفائدة الأميركية في السادس والعشرين من يوليو الجاري لتصل إلى نطاق 5.25% و5.50%.

لكن الأسواق تراهن على أن هذه الزيادة قد تكون الأخيرة هذا العام من الفدرالي، لتنتهي أكثر دورات التشديد النقدي صرامة منذ ثمانينيات القرن الماضي.

كما ترى شركة الاستثمارات «بيمكو» أن بيانات التضخم الأميركية الإيجابية في يونيو لن تمنع الفدرالي من رفع الفائدة 25 نقطة في يوليو لكنها من المرجح أن تكون الزيادة الأخيرة.

في حين توقع الفدرالي في اجتماعه الأخير في يونيو الماضي رفع معدلات الفائدة مرتين إضافيتين هذا العام، وهي نفس التوقعات التي كررها «جيروم باول» في خطاب نهاية يونيو.

ويستمر قلق البنك المركزي من قوة سوق العمل، حيث لا يزال معدل البطالة قرب أدنى مستوى في 50 عاماً.

ورغم تضارب التوقعات بشأن ما إذا كان الفدرالي سيقوم بزيادة إضافية للفائدة بعد شهر يوليو، فإن الأمر المؤكد أن تطور بيانات التوظيف ستكون المحدد الرئيسي بشأن إعلان الفوز في المعركة ضد التضخم.