بدأت الأمور كأنها سجال عراقي عابر، حين سحب الرئيس العراقي عبداللطيف رشيد، مرسوماً رئاسياً قديماً يتعلق بصلاحيات البطريرك لويس ساكو، الذي عيّنه الفاتيكان رئيساً للطائفة البابلية الكلدانية في المشرق والعالم، وهي مؤسسة كنسية عريقة لديها وكلاء في العراق وإيران وسورية ولبنان ومصر، ضمن أقدم رعوية تعود إلى القرن الثاني الميلادي، وعاشت مع العصرين العباسي والعثماني وما تلاهما من العهود، لكن الأمر وصل السبت الماضي إلى تدخل من الفاتيكان نفسه، ومن مرجعية إسلامية عليا في النجف، في محاولة للحد من الضغط على رئاسة الطائفة المسيحية في العراق، مصدرها الأساسي فصيل مسيحي مدعوم من الفصائل الموالية لطهران.

وبعد جدال تطور خلال الأسبوع الماضي، أعلن زعيم المسيحيين العراقيين الأب لويس ساكو، أنه سيغادر بغداد، المعروفة بأنها مقر الكنيسة المشرقية، ويلجأ إلى كردستان، حيث مدينة عنكاوة التي تمثل واحدة من أقدم الحواضر المسيحية في «الهلال الخصيب»، لكن ذلك استدعى الأوساط المقربة من المرجع الأعلى في النجف علي السيستاني، إلى كتابة بيان يدافع فيه عن الزعيم المسيحي، ضد إجراءات قضائية ورئاسية و«فصائلية» غير مسبوقة، استهدفت الكنيسة.

Ad

وقال الأب ساكو، في لقاء تلفزيوني داخل العراق، إن لديه وكلاء في كل الشرق الأوسط، وإن مرسوم رئاسة الجمهورية الذي أقرّ سلطاته الدينية والإدارية، هو «تقليد منذ العصر العباسي»، مشيراً إلى أنه يدرس الفقه الإسلامي إلى جانب اللاهوت المسيحي، بينما أكد ابتعاده عن أي خلاف سياسي.

ويعود الأمر إلى ظاهرة تتشكل منذ تصاعد نفوذ الحرس الثوري في العراق خلال الحرب ضد تنظيم داعش عام 2014، إذ نشطت إيران في اللعب على التناقضات الداخلية لخريطة طوائف وأديان ولغات وقوميات معقدة هناك، وصارت الأوساط السياسية تتحدث عن «مسيحيين موالين لإيران» وأيضاً «أكراد موالين لإيران» مع ممثلين للديانة الإيزدية النادرة في العالم، يبدو أن بعض أجنحتها صارت تتعامل مع الحرس الثوري.

وفي بيانٍ نادر جداً، نشره الكاردينال لويس ساكو، وجّه الاتهام إلى فصيل مسلح «مسيحي» يقوده تكتل نيابي بزعامة ريان الكلداني، بمحاولة الانقلاب على الكنيسة، والاستيلاء على صلاحياتها الإدارية المتعلقة بوضع سياسي واجتماعي، والتعامل مع أوقاف كبيرة في العراق الذي يعد موطناً لأقدم الكنائس في الشرق الأوسط.

وحين أعلن البيان نفسه أن زعيم المسيحيين غادر بغداد إلى أربيل، التي تمثل آخر حاضنة لمعارضي النفوذ الإيراني، سارع المقربون من المرجع الشيعي الأعلى في النجف علي السيستاني، إلى إصدار مواقف دافعت عن الكاردينال لويس ساكو، واعتبرت أن المعاملة التي تلقاها من مؤسسة الرئاسة والقضاء «لا تليق بمكانته».

وأعربت أوساط سياسية من كل الطوائف عن انزعاجها من هذا الموقف الذي يأتي في توقيت سياسي صعب، ويخرق قواعد تعايش عريقة مع مسيحيي العراق والمشرق، ويشجب محاولة «اللعب على التناقضات» داخل مكونات ثقافية عريقة من الديانات المتنوعة داخل العراق.

وقال رجل دين مسيحي بارز لـ «الجريدة»، إن موقف مرجعية النجف متوقع، لأنها قلقة من محاولات الحرس الثوري التلاعب بالوضع الديني في العراق، سواء تعلق بديانة الأغلبية المسلمة وطوائفها، أو باقي المكونات الدينية والثقافية في البلاد، خصوصاً أن ما جرى في لبنان طوال ربع القرن الماضي، يشهد على أن «التلاعب بالأديان» لا يأتي إلا بعواقب اجتماعية وسياسية ودولية وخيمة.