تناولت في مقالين سابقين متتاليين، تحت هذا العنوان، ما ينطوي عليه الرأي القائل بأن المحكمة الدستورية سلطة رابعة، وحكم بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، من خروج على أحكام الدستور وتنقيح فعلي له، وقد حدد الدستور سلطات الحكم في الدولة، بالسلطات الثلاث سالفة الذكر على سبيل الحصر، ونصب الأمير حكما بينها، وأخضعها لمبدأ الفصل بين السلطات، وأن المحكمة الدستورية بموجب أحكام المادة (173) من الدستور قد وردت في الفصل الخاص بالسلطة القضائية، فلا يمكن أن تخرج من إطار هذه السلطة ومن المحاكم التي تتولى هذه السلطة، إعمالاً لأحكام للمادة (53) من الدستور.

ونتناول في هذا المقال، الحديث عن ثلاثة أمور:

Ad

- الأمر الأول: حظر نزول أي سلطة عن اختصاصها.

- الأمر الثاني: نزول مجلس الأمة عن اختصاصه المنصوص عليه في المادة (95).

- الأمر الثالث: مخالفة تفسير المذكرة التفسيرية للمادة (173) للدستور. ونتناول هذه الأمور تباعا فيما يلي:

حظر نزول أي سلطة عن اختصاصها

حيث عزل الرأي القائل بأن المحكمة الدستورية سلطة رابعة نص المادة (173) من الدستور الذي أنشئت المحكمة الدستورية بموجبه، عن السلطة القضائية التي أفرد لها الدستور فصلا خاصا، هو الفصل الخامس، من الباب الرابع الخاص بالسلطات، بالرغم من ورود نص هذه المادة في هذا الفصل. وهو فصل خرج من رحم المادة (53) من الدستور، التي نصت على أن «السلطة القضائية تتولاها المحاكم باسم الأمير في حدود الدستور»، وهي سلطة تخضع لأحكام المادة (50) من الدستور، التي نصت على أنه: «لا يجوز لأي سلطة من السلطات النزول عن اختصاصها المنصوص عليه في هذا الدستور...»، وهو الخطاب الموجه الى السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، فلا يجوز لأي سلطة منها النزول عن اختصاصها المنصوص عليه في الدستور.

وبمفهوم الموافقة لهذا الحكم فإنه لا يجوز لأي سلطة من هذه السلطات اغتصاب اختصاص سلطة أخرى، ومن باب أولى فإنه لا يجوز لأي محكمة من المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، التي أنشئت وفقا لأحكام الفصل الخاص بالسلطة القضائية، أن تتمرد على هذه السلطة، وتدّعي أنها سلطة رابعة مستقلة عن هذه السلطة، وتنتزع لنفسها اختصاصا عهد به الدستور الى السلطة القضائية، حتى لو كانت قد انفردت بهذا الاختصاص، لأن انفرادها بهذا الاختصاص، دون غيرها، وفقا لأحكام المادة الأولى من القانون رقم (14) لسنة 1973 بإنشاء المحكمة الدستورية، لا يعفيها من الالتزام بأحكام الدستور باعتبارها إحدى المحاكم التي تتولى السلطة القضائية في حدود الدستور، وفقا لأحكام المادة (53) من الدستور، ولا يعفيها من الالتزام بأحكام القوانين بوجه عام، والقانون الصادر بتنظيم القضاء بوجه خاص.

التأثر بدستور مصر 1971

ولعل الرأي القائل بأن المحكمة الدستورية سلطة رابعة مستقلة عن السلطة القضائية كان متأثرا في ذلك بدستور مصر لسنة (1971) الذي أفرد الفصل الرابع للسلطة القضائية وأفرد الفصل الخامس للمحكمة الدستورية العليا، وذلك من الباب الخامس الخاص بنظام الحكم، فأخرج المحكمة الدستورية العليا من إطار السلطة القضائية، فلكل دستور فلسفته في هذا الأمر، ومع ذلك فقد عدل كل من دستور مصر 2012 ودستورها 2014 عن ذلك، إذ جعلا المحكمة الدستورية العليا في مصر فرعا من فروع السلطة القضائية.

نزول مجلس الأمة عن اختصاصه

وفي هذا السياق نصت المادة (95) من الدستور على أن يفصل مجلس الأمة في صحة انتخاب أعضائه، ولا يعتبر الانتخاب باطلا إلا بأغلبية الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس، ويجوز بقانون أن يعهد بهذا الاختصاص إلى جهة قضائية.

فقد دل الدستور بهذا النص، دلالة قاطعة على أمرين:

أولهما: أن الدستور اختص مجلس الأمة بالفصل في صحة انتخاب أعضائه، فأخرج منازعة قضائية من اختصاص المحاكم بنص صريح في وقت لم تكن المحاكم مهيأة للفصل في هذه المنازعة، ذات الحساسية، حيث لم يكن عدد القضاة الكويتيين كافياً أو مؤهلا لذلك.

ثانيهما: كما أجاز الدستور لمجلس الأمة النزول عن هذا الاختصاص بقانون لجهة قضائية، عندما يتوافر العدد الكافي من القضاة الكويتيين المؤهلين لهذا الأمر الجلل، وهو مراجعة نتائج الانتخابات، والفصل في صحة انتخابات أعضاء مجلس الأمة.

ولم يطل الوقت لنزول مجلس الأمة عن هذا الاختصاص إلى جهة قضائية، فنصت المادة الأولى من قانون إنشاء المحكمة الدستورية، رقم (14) لسنة 1973 على أن تفصل هذه المحكمة في الطعون الانتخابية وفي صحة انتخاب أعضاء مجلس الأمة، ليعود الاختصاص إلى السلطة القضائية، صاحبة الاختصاص الأصيل به.

مخالفة التفسير الملزم للمذكرة التفسيرية

فقد جاء في المذكرة التفسيرية للدستور، في سياق تفسيرها للمادة (173) من الدستور ما يلي: (وفقا لهذه المادة يترك للقانون الخاص بتلك المحكمة الدستورية مجال إشراك مجلس الأمة، بل الحكومة تشكيلها الى جانب رجال القضاء العالي في الدولة، وهم الأصل في وضع التفسير القضائي الصحيح لأحكام القوانين وفي مقدمتها الدستور قانون القوانين). وقد دلت المذكرة التفسيرية بهذا التفسير على عدد من الأمور التي لا يجوز عزلها عن بعضها، وهي:

1- أن إشراك مجلس الأمة والحكومة في تشكيل المحكمة الدستورية هو أمر متروك للمشرع وفقا لسلطته التقديرية الواسعة، وليس إلزاما على المشرع.

2- أن الجهة القضائية التي يعينها القانون للفصل في المنازعات المتعلقة بدستورية القوانين، هي محكمة وقد أطلقت عليها ذلك المذكرة التفسيرية المحكمة الدستورية، فهي تدخل سرب المحاكم التي تتولى السلطة القضائية، وفقا لأحكام المادة (53) من الدستور.

3- أن رجال القضاء العالي في الدولة هم الأصل في القيام على وضع التفسير القضائي الصحيح لأحكام القوانين وفي مقدمتها الدستور أبو القوانين. ومن هنا فإن تأويل ما ورد في المذكرة التفسيرية للدستور بتقطيع أوصال هذا التفسير، بما لا يحتمله تفسير نص المادة (173) من الدستور، رغم أنه لا أساس لمثل هذا التأويل في هذا النص فيما يقول به البعض من مخالفة قانون المحكمة الدستورية لأحكام هذه المادة، لعدم إشراك السياسيين في تشكيلها، للوصول إلى القول بأن المحكمة الدستورية تصبح بهذا التشكيل المختلط سلطة رابعة تعلو كافة السلطات، هو أمر قصي عن الجادة عصي على التقبل.