كيف السبيل لاسترداد الأموال المنهوبة بالفساد؟

قبل أن نفكر في استرداد الأموال المنهوبة، تتبادر عندنا تساؤلات عديدة، فلا بدّ من معرفة من نهبها، وكيف تم النهب، وكيف تم تحويلها خارج البلد، وهل هناك شركاء، ومَن هم، وهل هناك مؤسسات مالية متورطة؟

إذا أردت أن تحوّل أموالاً إلى الخارج، فمن السهل القيام بذلك عن طريق الذهاب إلى أحد المصارف أو المؤسسات المالية، وطلب تحويل النقود إلى أي مكان في العالم، ويتم ذلك عن طريق سويفت (SWIFT) التي تعني جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك، وهذا النظام عبارة عن شبكة من المراسلات الضخمة التي تستخدمها المصارف والمؤسسات المالية الأخرى لتقوم بإرسال المعلومات واستقبالها بسرعة ودقّة وأمان، ويشمل ذلك تعليمات نقل الأموال وتحويلات المبالغ للعملاء، وأوامر الشراء والبيع للأصول، ويمكن لـ «سويفت» أن يجيب عن جميع هذه التساؤلات الجوهرية في تعقّب هذه الأموال!

Ad

وقد أسست المنظمة عام 1973 ومقرها الرئيسي بلجيكا، وبدأ نشاطها عام 1977، وعدد الدول المشتركة فيها أكثر من 209 دول، من بينها معظم الدول العربية، ويزيد عدد المؤسسات المالية المشتركة فيها على 9000 مؤسسة، وفقاً للوائح نظام سويفت.

ووفقاً للمادة رقم 114 من الدستور، فإنه «يحق لمجلس الأمة في كل وقت أن يؤلّف لجان تحقيق أو يندب عضواً أو أكثر من أعضائه للتحقيق في أي أمر من الأمور الداخلة في اختصاص المجلس، ويجب على الوزراء وجميع موظفي الدولة تقديم الشهادات والوثائق والبيانات التي تطلب منهم»، ووفقاً للمادة رقم 115 من الدستور فإن «المجلس يشكل ضمن لجانه السنوية لجنة خاصة لبحث العرائض والشكاوى التي بعث بها المواطنون إلى المجلس، وتستوضح اللجنة الأمر من الجهات المختصة، وتعلم صاحب الشأن بالنتيجة، ولا يجوز لعضو مجلس الأمة أن يتدخل في عمل أيّ من السلطتين القضائية والتنفيذية».

وتهدف لجان التحقيق إلى التحقق من صحة ما قد يكون قد وصل إلى السلطة التشريعية من لغط وشكوك حول جهاز تنفيذي معيّن أو إحدى المصالح التابعة له، ولما كانت ممارسة هذا الأمر مما تستلزمه الوظيفة الرقابية للسلطة التشريعية ومن سلطات لجان التحقيق ما يلي: «فحص الشهادات والوثائق والبيانات التي تقدّم إليها - والاستعانة بأعمال الخبرة - واستدعاء وسماع الشهود».

وبناء عليه، فإنها تخلص بتقريرها النهائي دون أن تتخذ فيه قراراً محدداً، وإن جاز لها أن توصي بما تراه مناسباً، إذ إن سلطة اتخاذ القرار هنا تترك لصاحب السلطة الأصيل، ألا وهو المجلس التشريعي.

وهناك أعمال لا يجوز أن تكون محلاً للتحقيق البرلماني، وهي «المواضيع التي لا تدخل في اختصاص المجلس لا تصلح محلاً لتحقيق البرلماني - وعدم امتداد سلطة التحقيق البرلماني إلى الأحكام النهائية الصادرة عن السلطات القضائية، إذ إن هذا الأمر هو أحد مستلزمات احترام مبدأ الفصل بين السلطات وفقاً للمادة 50 من الدستور» يقوم نظام الحكم على أساس فصل السلطات مع تعاونها وفقاً لأحكام الدستور، ولا يجوز لأي سلطة منها النزول عن كل أو بعض اختصاصها المنصوص عليه في هذا الدستور، وعدم أحقية لجان التحقيق في القيام بأيّ عمل يحمل في طيّاته شبهة اغتصاب اختصاص إحدى السلطتين الأخريين التنفيذية أو القضائية، وعدم إمكان امتداد التحقيق البرلماني لشؤون أشخاص القانون الخاص الطبيعيين أو الاعتباريين».

وتفريعاً على هذا المبدأ الدستوري الكلي، نجد أن اختصاص السلطة التشريعية (البرلمان) يقف عند حدود ممارسة تلك الأمور أو الموضوعات أو المسائل التي تدخل في نطاق اختصاص هذه السلطة، سواء اتصل ذلك بالمسائل التشريعية، أو كان في نطاق الرقابة السياسية والاختصاص المالي، ولا تملك السلطة التشريعية في الأنظمة الدستورية البرلمانية على وجه الخصوص أن تخرج عن هذا المبدأ لتقحم نفسها في ميدان أو عمل أو أمر لا يدخل في اختصاصها، باعتبار أن ذلك إنما يكون حصراً وحكراً على سلطة أخرى، سواء كانت السلطة التنفيذية أو السلطة القضائية، وهو ما قررته صراحة المادة (115) من الدستور.

لقد اكتسب مطلب استرداد الأموال المنهوبة أو المسروقة أهمية كبيرة في الأوساط الاجتماعية والسياسية في الكويت، وهو النبأ الذي استقبله الرأي العام بين مرحب وداعم أو مترقب للتفاصيل أو متخوف من أن تكون ورقة للتكسب الانتخابي أو الانتقام السياسي، لكونه يعكس في شعار واضح وبسيط مدى إحباط المجتمع من النهب الفادح المستمر والممنهج في القطاع العام، والغياب التام للمحاسبة السياسية والقانونية، وقصور أداء الأجهزة الرقابية الحكومية والنيابية، خصوصاً في ظل الإطار القانوني الذي استحدثته الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد لعام 2004، آخذين النظام التشريعي لاسترداد الأصول المنهوبة في المملكة المتحدة نموذجاً للمقارنة، وباختصار فإننا نرى أن القوانين المقترحة غير مؤهلة لمواجهة المهمة الهائلة المتمثلة باسترداد الأموال العامة المنهوبة، لكونها تتضمن آليات مفرغة من مضمونها، إذ تم تضييق نطاق تطبيقها، بحيث يصبح تنفيذها أمراً مُستبعَداً على أرض الواقع.

طرح المجتمع الدولي إطاراً جديداً لتيسير تتبع الأصول المنهوبة باتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (هو الفصل الخامس) ومبادرتها (STAR) بالتعاون مع مكتب الأمم المتحدة لمكافحة المخدرات والجرائم (UNODC)، وبين مجموعة البنك الدولي (WBG) والتي صادقت عليها 189 دولة عضو في الأمم المتحدة، وتمثل اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (STAR)، حيث المقصود بالفساد، وفق اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، أولاً أن الفساد ينطوي على استغلال السلطة في القطاعين العام والخاص، والآخر أن الأشخاص الذين يسيئون استعمال سلطتهم يجنون من وراء ذلك منافع ليست من حقهم، في حين أن منظمة الشفافية الدولية عرفت الفساد بأنه: «كل عمل يتضمن سوء استعمال المنصب العام لتحقيق مصلحة خاصة ذاتية لنفسه أو جماعته»، وتلزم اتفاقية الأمم المتحدة مكافحة الفسـاد في فصولها الثمانية، وموادها الإحدى والسبعين الدول الأطراف، أي الدول التي أودعت صك التصديق، بتطبيق تدابير واسعة النطاق ومفصلة لمكافحة الفساد تؤثر في قوانينها ومؤسساتها وممارسـاتها، تهدف هذه التدابير إلى تعزيز الوقاية من أفعال الفســاد وضبطها ومعاقبة مرتكبيها، بالإضافة إلى التعاون بين الدول الأطراف في الاتفاقية حول هذه الأمور، اتفاقية مكافحة الفساد فريدة مقارنة مع غيرها من الاتفاقيات، ليس بسبب عالميتها فحسب، بل أيضاً للتفصيل المستفيض لأحكامها.

السؤال المهم: هل وقّعت الكويت على هذه الاتفاقية؟ ومتى؟ ومن الوزير المختص بالتوقيع عليها؟ وهل تم التصديق عليها من قبل مجلس الوزراء ومن مجلس الأمة؟ ومتى؟

أرى أن موضوع استرجاع الأموال المنهوبة وإعادتها إلى الخزينة العامة للدولة أمانة تقع على الجميع، كل من موقع مسؤوليته، حيث إن هذا الموضوع مسألة كثيرة التعقيد والإجراءات وذات تفاصيل عديدة، وتطلب الكثير من الإجراءات والتشريعات والاتفاقيات وتبادل الخبرات، وهي من اختصاص الجهاز التنفيذي للدولة، ويقتصر دور مجلس الأمة فقط على لجان التحقيق لكشف الفساد ووضع التشريعات، ونقترح إنشاء مكتب لاسترداد الأموال المنهوبة يكون تابعاً لرئيس مجلس الوزراء، سنحدد دوره واختصاصاته لاحقاً)، لا يتغير أعضاؤها وعملها بسبب التغييرات الوزارية أو الاحتقان السياسي الذي لا يتوقف، وينبغي أن تشمل اللجنة خبراء في الجرائم المالية ومكافحة غسل الأموال، وخبراء في القانون الدولي، ودبلوماسيين يشهد لهم بالنزاهة والكفاءة للعمل على الزوايا والمستويات المختلفة لهذا الملف، ومن المنتظر أن يساعد البعد عن الصراعات السياسية والاستقلالية في الحفاظ على منهجية ثابتة ومحددة في العمل وثبات في العضوية.

كيف السبيل لاسترداد الأموال المنهوبة بالفساد (الكيفية، الإجراءات، الصعوبات والوسائل المتاحة)، وتتمحور هذه المشكلة في بحث مدى فعالية الآليات القانونية والإجراءات في استرداد الأموال المهربة إلى الخارج، سواء على المستويين الوطني أو الدولي، أو هي مجرد شعارات أو تكسّبات سياسية!

نهدف إلى تبيان الحقيقة العلمية المجردة والموضوعية من خلال استعراض تجارب الدول التي نجحت أو فشلت في استرداد الأموال العامة المنهوبة، ففي مصر يقدر حجم الأموال المهربة من مصر وفق خبراء قريبين من البنك الدولي بنحو 28 مليار دولار أي ما يعادل 444.847 مليار جنيه مصري، ويقول الخبراء إن هذا الرقم قد يكون أقل من الرقم الحقيقي لاستحالة تتبع حركة تلك الأموال، وقامت عدة دول مثل سويسرا والمملكة المتحدة بتجميد أموال بعض من السياسين في مصر، لكن هذا التجميد لا يضمن عودة الأموال، إذ يتم التجميد فقط في حالة الاشتباه بهدف عدم تمكين المشتبه فيه من نقل الأموال لحسابات أخرى إلى حين إجراء التحقيقات المطلوبة، وتقع بعد ذلك المسؤولية على الدولة الراغبة في استرداد الأموال وهي مصر في حالتنا سنستعرض تجربتها في استرداد الأموال المنهوبة في حالة تعاونها بتوفير البراهين والأدلة التي تثبت أن مصدرها غير مشروع، وهذا هو الجزء الصعب.

ويسعى مكتب المدعي العام السويسري إلى تسهيل عملية تبادل المعلومات من خلال طلبات التعاون المتبادل عن طريق دعم بند في التشريع السويسري من شأنه إضفاء الوصف الجنائي على أي عملية مالية مماثلاً لعمليات عصابات المافيا.

في مايو عام 2012 صدر حكم قضائي سويسري يعتبر أن النظام السابق في مصر قد اكتسب التوصيف القانوني لجهة تمارس الجريمة المنظمة، وبإكساب النظام السابق لذلك التوصيف ستتمكن سويسرا من تطبيق ما يُعرف بالمنطوق العكسي لإثبات الجريمة، بمعنى

«أن المتهم ليس بريئاً قبل إثبات إدانته، إذاً هو مدان قبل إثبات براءته، عندما تثبت وجود جماعة أو منظمة أن جميع الأموال التي بحوزتها غير مشروعة وعليها أن تثبت أن مصدر هذه الأموال والأصول مشروع إذاً تحاول دول مثل سويسرا العثور على أموال مصر المنهوبة بتغيير الوصف الجنائي للمسؤولين السياسين السابقين من خلال التشريعات السويسرية والمعلومات اللازمة، ولتتبّع مصدر هذه الأموال ومصدرها وكيف تم تحويلها ومن ثم إعادتها، لا بدّ أن تصدر من مصر، وهي أول خطوة إجرائية قانونية لاسترداد أي أموال منهوبة، إذ لم يتم استرداد أية أموال منهوبة من التجربة المصرية.

على الصعيد الآخر التجربة النيجيرية من أنجح التجارب في مجال استرداد الأموال المهربة خارج البلاد، فبعد مباحثات دامت أكثر من 7 سنوات بدأت بتحقيق أمني واسع من السلطات النيجيرية عام 1998 بمشاركة سويسرية استعانت الحكومة النيجيرية بخدمات مكتب محاماة سويسري يدعى مونفريني وشركاه من أجل تعقب الأموال النيجيرية فى الخارج، وبحلول ديسمبر 1999 قبلت السلطات السويسرية أول طلب للمساعدة القانونية المتبادلة، مما أتاح إصدار قرار عام بالتجميد، لكن الحكومة السويسرية اشترطت الحصول على حكم نهائي بالمصادرة من المحاكم النيجيرية وهو ما كان أمراً صعباً على المستويين القانوني والسياسي في تلك الفترة في نيجيريا إلى أن استطاع مكتب مونفريني الحصول على حكم تاريخي بعدم الحاجة إلى حكم المصادرة النهائي لوجود ما يكفي من أدلة تثبت فساد «أباتشا» ومعاونيه، واستطاعت نيجيريا أن تسترجع أموالها المهربة من الرئيس النيجيري الأسبق، فاستردت نصف مليار دولار في الفترة من 2005 إلى 2006، وفي عام 2013 تم استرداد 1.9 مليار.

ولم يكن هذا ليتم لولا تعاون واتفاق بين السلطتين، والسؤال موجّه إلى السلطة التنفيذية والتشريعية معاً، هل تم التعاون فيما بينهما بإعداد التشريعات الجزائية واعتمادها من مجلس الأمة ونشرها بالجريدة الرسمية، لتتمكن الدولة من خلال أجهزتها الرسمية من تعقّب والمضي قُدماً في الإجراءات التنفيذية والملاحقة القانونية والقضائية العملية في استرداد الأموال المنهوبة على أرض الواقع، حيث اتبع واضعو المنهج التشريعي الجزائي في «اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد» منهجاً متوسعاً في التشريع، إذ لم يتم الاكتفاء بمجرد تعيين وتوصيف هذه الجرائم، إنما تم تفصيل المبادئ والأحكام الخاصة بكل جريمة من حيث التعريفات المتطلبة والأركان المشترطة لقيامها ولتحقيق المسؤولية الجنائية فيها على نحو يكفل الإحاطة بتلك الجرائم، كما تطرقت الاتفاقية إلى صور المساهمة الجنائية وأحوال الاشتراك في الجريمة ووضعت التدابير الوقائية من هذه الجرائم من قبيل المواجهة السابقة على الجريمة ووسائل الملاحقة القضائية كأثر لاحق عليها كما لم تغفل الحث على مراعاة حقوق ذوي النيات الحسنة، وضرورة تقدير وتقييم موقف المتهم في شأن أحوال استحقاقه تخفيف العقوبة أو إعفائه منها لما يقدّمه من عون للجهات المعنيّة بإنفاذ القانون قد يساعد على كشف الحقيقة، ومن ثم إدراك الجناة.

وللحديث بقية إن شاء الله، لوضع الرؤية والكيفية والإجراءات والصعوبات والمعوقات على ضوء الوسائل المتاحة والتشريعات الحالية، كيف سيتم استرداد الأموال المنهوبة والمتحصلة من جرائم فساد وتم تهريبها للخارج؟