أعطى ناجي جبر من حياته لفنّه الكثير وقدّم بكل صدق، فصنع شخصية مستقلة، وهو ما لم يقدر عليه إلا قلة قليلة من الممثلين، صحيح أن «أبو عنتر» سجنه في دور واحد فترة طويلة، لكنّ هذه الشخصية جالت البيوت العربية أكثر من غيرها، فهي تُحدث الناس بلطف وبساطة عن همومهم وتمثّل جزءاً من واقعهم، وقد أوصلت إليهم لهجة جديدة (اللهجة الشامية) رفقة مجموعة من نجوم عصره.

وكان رده دائماً على مَن يتهمهم بتصدير تلك اللهجة السورية، على حساب اللغة العربية الفصحى، بتأكيد أن المطلوب لم يكن التحدث بلغات أخرى كالفرنسية أو الإنكليزية، وهو لم يخرج عن نطاق العربية، فاللهجة العامية الدمشقية تتشابه وتلتقي مع اللغة الفصحى إلى حد بعيد، مضيفاً أن ما قدمه من أعمال رفقة صديقه غوار (دريد لحام) شوهدَ في مختلف الدول بالعالم العربي من كل أطياف الجمهور، وفي النهاية، فإن ناجي جبر ممثل يقدّم كل الأدوار، ولم ينحصر دوره بالأعمال الشعبية فقط، متحدياً أن يجسّد أي أي ممثل سوري أو عربي غيره دور «أبو عنتر» أو «سيفو العكر» أو «صياح» أو حتى «نمر»، لكن باستطاعته لعب أدوارهم جميعاً، وهنا يوضح الفرق بينه وبين بعض الناس، موضحاً أن كلامه هذا لم يأتِ من غرور، لأن الله منحه هذه النعمة والمَلَكة التي يعتز بها كثيراً.
ختام السينما

كان من الواضح بعد منتصف الثمانينيات توقّف إنتاج الأعمال السينمائية في سورية بقطاعيها، لكن ناجي عاد بداية التسعينيات ثم توقّف مجدداً 5 سنوات، ليعود بآخر عمل سينمائي سنة 1995، ليشكل هذا الفيلم ختاماً جميلاً لمسيرته السينمائية في فيلم «صعود المطر» للمخرج السوري الشهير عبداللطيف عبدالحميد من إنتاج المؤسسة العامة للسينما.
Ad


وأثنى كثر على ظهوره هذا، معتبرين أن مثل هذه المشاركة مر عليها عقد من الزمن في فيلم «أحلام المدينة» للمخرج والكاتب محمد ملص سنة 1984، الذي يقدّم فيه إحدى مراحل سورية الحساسة من محاولة الانقلاب الفاشلة على حكم أديب الشيشكلي عام 1953 إلى الوحدة السورية المصرية عام 1958 بعين طفل يُدعى ديب «باسل الأبيض».

أما فيلم «صعود المطر» الذي كتبه حسن سامي يوسف، وتدور أحداثه حول الكاتب والفنان صباح «تيسير إدريس» رب الأسرة والعاشق في مدينة تنبذ أبنائها عن مركزها إلى أطرافها، حيث يتوجه الوافدون إليها. وبهذا الفيلم تكون تجربة جبر السينمائية الطويلة انتهت وقدّم فيها عشرات الأفلام بشخصيات متنوعة طوّر فيها دوراً كان صغيراً وضعه جبر في مرتبة متفوقة، مشاركاً في رحلته السينمائية هذه نجوماً عرباً وبعض الأجانب. أيام ساروجة

يعود ناجي جبر بدور جديد في مسلسلات البيئة الشامية، واضعاً حداً للصراع الدائر في الحارة. هذه المواجهة ستكون في مسلسله الجديد «أيام ساروجة» للمخرج علاء الدين كوكش والكاتب أحمد حامد، حيث يقدّم فيه شخصية الساعد الأيمن ورجل الحق بالنسبة إلى الزعيم الذي يجسّد دوره الفنان السوري جمال سليمان. اعتبر ناجي أن الأمر بعيد عن المجابهة الدرامية بينهما، بل هو أقرب إلى اتفاق وتكاتف للعمل من أجل الناس في الحارة. يبتعد العمل عن نمط مسلسل باب الحارة، غير شعبي، وليس للاستعراض الفولكلوري بقدر ما يروي قصة واقعية حدثت في فترة ما، وفيه الكثير من الأحداث السياسية والاجتماعية، حيث تدور أحداثه في حارة يفترض أن يزورها ملك ألمانيا، زعيم الحارة «أبو حسن» الرجل الكريم والشهم يرتكب أخطاء كبيرة بحق أفراد الحارة وبحق أهل بيته، بسبب تمسكه بالتقاليد الموروثة، لنجد زعيماً حقيقياً لا يشبه زعيم باب الحارة (عباس النوري)، مشيراً إلى أن خط الحارة الشعبية في الدراما السورية قديم وليس جديداً، كما قدّمت الدراما عشرات الأعمال خلال سنوات طويلة للنمط نفسه ونجحت بالفعل، ونجاح مسلسل باب الحارة لا يعني أنه الوحيد في هذا المجال.


وفي العمل يعود القبضاي كشخصية أبو عنتر، ليصلح أحوال الحارة بساعديه القويتين وجرأته الكبيرة، وعلى الرغم من تقدّمه بالعمر، فإنه لا يزال يتمتع صحياً بنفس كاريزما الشخصية، وشخصية «نمر» الرجل المعتز برجولته وقوته وشراسته ويهابه الجميع تحمّل الكثير من معالم شخصية أبو عنتر» محبوبة الناس. ونمر هو تجسيد لعدة جوانب انطباعية غير متجانسة بين الخير والشر، لكنها متواترة تطرأ عليها فجأة تحولات تقلبها رأساً على عقب، لتصبح تلك الشخصية تدور في فلك «الدروشة» ومساعدة الناس وحبّهم.

وهو رجل بكل ما تعني الكلمة من معنى، يكره العنتريات التي لا طائل ولا فائدة منها سوى أذية الناس، يحب زعيم الحارة، ساعده الأيمن، يعمل بنصائحه دائماً، لا يخرج عن خط الزعيم ليتصرف من تلقاء نفسه إلّا إذا اقتضت الضرورة. لا يمكن أن يقدّم أبو عنتر شخصية ما لم يكن بينه وبينها حب كبير حتى يعطيها كل ما يستطيع من روحه وكيانه، أو سيعتذر عنها كما أن تأثير الشخصية عليه يقدّمه بالأهمية على تأثيرها على الجمهور.

ثم غيّر مخرج العمل لاحقا اسم المسلسل من أيام ساروجة إلى أهل الراية، حتى لا يعتقد الناس أن العمل محصور بأحد أحياء دمشق الذي يحمل اسم ساروجة وعرض سنة 2008، وهو من بطولة: جمال سليمان، وسمر سامي، وكاريس بشار، وقصي خولي، وأيمن رضا، وسامية الجزائري، وتاج حيدر، وعبدالرحمن آل رشي، وهدى شعراوي، ورفيق سبيعي، وشكران مرتجى، وحسام تحسين بيك.

ويتقاسم البطولة سنة 2008 بدور «أبو راشد» في مسلسل «بيت جدي» مع الفنان بسام كوسا، متفرداً بأداء وحضور مميزين لشخصية أقل ما يقال عنها إنها مناسبة جداً لفنان بحجم أبو عنتر، إلا أنها كانت آخر شخصية. آخر مسرحياته

يعود أبو عنتر في الألفية الجديدة إلى رفيق دربه الوفي له، ليقدم أعمالاً مسرحية مثل مسرحية «ضيف خفيف لطيف» سنة (2006)، فالمسرح بالنسبة له فن راسخ لا يمكن لأحد إلغاؤه أبداً. وهو فسحة لتحقيق المتعة على خشبته بين الممثل والجمهور.

جبر كان يتحضر لبروفات المسرحية في مسرح سينما السفراء بدمشق، وكنّا قد تحدثنا عنه في حلقتنا الأولى، كيف يعتبر المسرح طريقاً لأيّ نجم، وأن تلك الخشبة لا بدّ من رد الوفاء لها، فتجده مهتماً أثناء تحضيره ومنهمكاً حد التعب، ومن جملة الأمور التي يعتب بها على الجميع لابتعادهم عن المسرح، إذ كان يعتب على العاملين في الصحافة ومجافاتهم المتعمدة للفنانين، باستثناء الشباب منهم وكأنهم فقدوا بوصلة العمل الصحيحة.

والعاملون في المسرح قادرون على تحفيز تحقيق التحليق الفكري في رسم الواقع وجلب الفرحة للجمهور من خلال صنع مساحات مفتوحة للكوميديا الاجتماعية، فمهمته الرئيسية تكمن في ملامسة الواقع المعاش للمواطن وتقديمها كوميديا بكل جمال وبإحساس وفن، ليشعر الجمهور بأنه اكتسب ابتسامة حقيقة على وجهه دون أي أقنعة.

وفي حوار صحافي، أشار أبو عنتر إلى الثقل الكبير على كاهل المواطن ففي حياته اليومية يتحدث بالسياسة، بل إن السياسية أضحت كالدم في عروقه، وما يجري حول العالم كل يوم من حوادث وكوارث وغيرها، لا بدّ أنه تسبب في هذا الثقل. وجاءت وسائل الإعلام كافة لتصيبنا بحمّى متابعتها، فيقرر أبو عنتر تغيير خطته، والابتعاد عن الإسقاطات الدرامية السياسية على المسرح، رغبة منه في تقديم شيء مختلف للجمهور وبعيد عن السياسة وتبعاتها كوجبة كوميدية ترفع عنهم وتعبّر عن الهموم التي يعايشونها يوميا تعيد لهم ألق الحياة، مبتعدين عن ظلال أخبار الحروب والدمار والقتل.
الوفاة

تزوج الفنان ناجي جبر عام 1984 السيدة ليلى جرماني، ورزقا بـ 4 أبناء هم لجين وهيا وريبال ومضر.

تحدثت زوجته ليلى، في لقاء أجراه التلفزيون السوري معها في الحادي عشر من مايو 2009، بعد رحيل ناجي، عن الفترة الأخيرة من حياته أثناء مرضه، مؤكدة أنهم عاشوا أياماً جميلة لم يشعروا خلالها بمرضه، وعند علمها بتعرضه لوعكة صحية كان وقتها يتجهز للسفر إلى الإمارات للمشاركة في مهرجان دبي، وكان واضحاً عليه التعب، فقمنا بإجراءات الفحوص والتحاليل الطبية اللازمة، ولم نتركه يسافر، فقد أظهرت نتائج الفحوص إصابته.

بداية، لم أخبره بالمرض، فقد كنت خائفة عليه أن يترك الخبر تأثيراً سيئاً على صحته، لكن عندما كان واجباً عليّ إخباره رأيته قوياً جداً، وحينها طلب من الطبيب أن يبدأ العلاج، فلديه أعمال والتزامات لا يريد التأخر عنها، لكن مرضه انتشر سريعاً، وفي النهاية توفي كرجل عظيم، صباح الاثنين 30 مارس 2009 عن عمر يناهز 69 عاماً في مستشفى بالعاصمة السورية دمشق، بعد صراع طويل مع سرطان الرئة، حيث نعاه بحزن من يعرفه على الشاشة ومن عمل معه كالمخرج الإذاعي مروان قنوع الذي عمل معه ناجي جبر في تجربة إذاعية وصفت بالمتميزة للكاتب وليد معماري، وكان اقتراح جبر تمثيل كل شخصيات العمل الصوتية، فيقوم بتلوين صوته وتغييره بشخصية أبو عنتر، وصوت آخر لشخصية أم عنتر، وشخصية ابنه صوت، وشخصية والده آخر، وحتى شخصية ابنته، وأثناء تنفيذ العمل كان جبر متقناً وناجحاً ومتميزاً في أداء كل الشخصيات.

من جهته، أكد الفنان الراحل صبحي الرفاعي أن «أبو عنتر» كان من الفنانين القليلين الذين لا يستطيع أحد مجاراتهم، لأنّه رجل مسرح حقيقي . فيما أشار الفنان الراحل رفيق سبيعي إلى الطيبة التي يحملها أبو عنتر في قلبه، فهو ناجي الحباب والمحب للنكتة، الظريف، يرسم الضحكة على وجه كل من يجالسه، ولا يمكن أن يملّ أحد من ذلك.

يعد ناجي جبر من الجيل الحقيقي المؤسس للدراما السورية، ويؤكد أن هذا الجيل خلق في أرض صخرية صحراوية عمل بجهد مضاعف على إزالة تلك الصخور وزرع الأرض وسقاها حتى أثمرت وأزهرت ياسميناً وأشجاراً، لتتمكن الأجيال القادمة من العمل بسهولة في ظروف أفضل، لكن بموت الأب وتقاسم أولاده الأرض يذهب كل واحد منهم في طريق، وعندما يتزوج يخبر زوجته بأنه من زرع وتعب، والحقيقة أنه لم يفعل شيئاً على الإطلاق، والجيل الجديد منهم مَن يعترف بفضلنا، ومنهم من لا يذكره أبداً.

ويوضح أبوعنتر أنه لا مقارنة تذكر بين عملهم وظروفهم في التمثيل سابقاً وبين عمل الممثلين حالياً، فقد كان الفنان ينتظر ويقف بالدور حتى يتم إنتاج مسلسل، وينتظر المخرج ليختاره، وكل مخرج كانت له «شلته»، هذه المشكلة بقيت موجودة منذ تلك الأيام، واستمرت على هذه الحال، حتى بدأت بعض الأعمال ترى النور ابتداء من «صح النوم» و«ملح وسكر» الجزء الثاني، و«وين الغلط» و«وادي المسك»، حيث بدأ الفن يتغلّب على الأشخاص.

ويحترم ناجي جبر الجيل الجديد ويحتضنه، فهو كنجم عربي يمتلك الخبرة والكاريزما والاجتهاد يشعر بأنه سيبقى كالأسد طوال حياته، لا يخشى ممثلين جدداً أو غيرهم. دائماً كان يوجه له السؤال عن التفكير بالاعتزال، ودائماً تكون الإجابة بالرفض المطلق، فالدم يجري في عروقه ويشبه نفسه بالطفل البريء الذي يستصرخ أحلامه الضائعة.

وعن حصول زملاء الحياة الفنية على وسام الاستحقاق الرئاسي، وعدم منحه له، قال: عندما يحين دوري سأحصل عليه.

في النهاية، كان هناك الكثير من الأدوار التي أحب ناجي جبر أن يؤديها، لكنّه حُرم منها، بسبب طغيان شخصية أبو عنتر على جبر كممثل، والتي كانت فرصة له للظهور والشهرة على الساحة الفنية. ويأسف لانحسار أدواره في فلك أبو عنتر، حيث قال: «أحببت تأدية أدوار أخرى لم تُعرض عليّ. وعن تلك الشخصية المحببة للجمهور والتي أبدع في أدائها، قال: أبو عنتر هو رجل مستقيم، لا يحب الخطأ أبداً، لذلك يعتقد أن من واجبه تصحيح هذا الخطأ بطريقته وأسلوبه، فيكون مصيره السجن.

ومن أقوال أبو عنتر التي يرددها محبوه بكل ظرف: شغلتين ما بتخلى عنون بهالحياة؛ حرمتي والسزن.

أعمال جبر الأخيرة في الدراما التلفزيونية الشامية

شارك ناجي جبر في الدراما التلفزيونية سنة 2008 في أولاد القيمرية الجزء الأول للمخرج سيف الدين سبيعي وللكتاب حافظ قرقوط وعنود الخالد وعباس النوري، وهو من بطولة عباس النوري، أمل عرفة، وأيمن رضا، ويارا صبري، ومكسيم خليل، وسلافة معمار، وقيس الشيخ نجيب، ونبيلة النابلسي، وفادي صبيح، وشكران مرتجى، وسلافة عويشق، متابعاً مع جزئه الثاني أيضاً الذي عُرض عام 2009.

ويكمل مع مسلسل الحصرم الشامي الجزء الثاني للمخرج سيف الدين سبيعي والكاتب فؤاد حميرة الذي عُرض عام 2008، وهو من بطولة عباس النوري، وفارس الحلو، ونادين خوري، ومكسيم خليل، وقيس الشيخ نجيب، وقمر خلف، وقصي خولي، وأيمن رضا، وخالد تاجا، وفادي صبيح، ونضال سيجري، وسوسن أرشيد.