المعرفة تحمل المفتاح إلى الرخاء الاقتصادي، وتأتي التكنولوجيا والإبداع والدراية الفنية من تَعَلُّم طرق جديدة لإنتاج السلع والخدمات التي تُثرينا، فالمعرفة هي أيضاً «المصلحة العامة» الأصلية: الأفكار الجديدة من الممكن أن تعود بالفائدة على الجميع، وما لم تقيد الحكومات والاحتكارات نشر هذه الأفكار، فإن استخدامها لا ينتقص من توافرها، هذا مهم بشكل خاص للبلدان الفقيرة، لأنه يعني أنها لن تضطر إلى إعادة اختراع العجلة، بل يمكنها ببساطة أن تتبنى التكنولوجيات والأساليب التي أنشأتها البلدان الأكثر ثراء لدفع عجلة التنمية الاقتصادية.

على الرغم من تقدير أهمية المعرفة من جانب أهل الاقتصاد وصناع السياسات منذ فترة طويلة، فإنهم لم يهتموا بالقدر الكافي بالظروف التي تجعلها مفيدة، فالسياق على جانب كبير من الأهمية، فذلك لأن أي تباين أو عدم توافق بين الظروف التي تتولد الأفكار في ظلها وخصائص البيئة التي تُطَبَّق فيها قد يقلل بشكل كبير من قيمة اكتساب المعرفة.

على سبيل المثال، تُزرَع الذُرة في مختلف أنحاء العالَم، لكنها تخضع لتهديدات بيئية مختلفة، اعتمادا على البيئة المحلية، فكانت جهود البحث والتطوير تركز بطبيعة الحال على تطوير مقاومة الآفات الأكثر شيوعاً في أميركا الشمالية وأوروبا، ونتيجة لهذا، نجد أن آلاف براءات الاختراع المرتبطة بالتكنولوجيا الحيوية موجهة نحو دودة الذرة الأوروبية، ولكن خَمس براءات اختراع فريدة فقط أعطيت لابتكارات تحمي من حشرة حفار ساق الذرة، التي تؤثر على منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا غالباً.
Ad


بعد دراسة هذه الأمثلة وأخرى كثيرة، يزعم الاقتصاديان جاكوب موسكونا وكارثيك ساستري من جامعة هارفارد أن عدم ملاءمة التكنولوجيات المطورة في الاقتصادات المتقدمة من الممكن أن يشكل عقبة كبرى أمام نمو الإنتاجية الزراعية في المناطق المنخفضة الدخل، ووفقاً لتحليلهما، قد يمثل التباين التكنولوجي في مجال الآفات ومسببات الأمراض الخاصة بالمحاصيل وحدها 15% من التفاوت العالمي في الإنتاجية الزراعية.

في حلقة نقاش حديثة نظمتها الرابطة الاقتصادية الدولية، قَدَّمَ موسكونا وخبراء آخرون مجموعة واسعة من الرسوم التوضيحية لتوظيف تكنولوجيات غير ملائمة، فوصفت ميراي كاماريزا، وهي مهندسة حيوية في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس، كيف تأخر كثيراً تطوير تكنولوجيات تشخيص مرض السل وغيره من الأمراض المعدية التي تؤثر في المقام الأول على البلدان المنخفضة الدخل عن تكنولوجيات تشخيص الأمراض الشائعة في البلدان الغنية.

عندما ضربت جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد 19) البلدان الغنية، أصبحت مئات الاختبارات التشخيصية متاحة في غضون أشهر، وعلى النقيض من هذا، استغرق الأمر أكثر من قرن من الزمن لتحقيق تقدم مماثل في حالة مرض السل، وعلاوة على ذلك، لا تزال تقنيات تشخيص مرض السل المتقدمة تعتمد على فنيين مدربين ومد ثابت من الكهرباء، والذي قد لا يكون متاحاً في البيئات المنخفضة الدخل. قد يحدث التباين أيضاً داخل البلدان عندما تُنشَر تكنولوجيات مصممة خصوصاً لتحقيق مصالح مجموعات بعينها على نطاق أوسع، على سبيل المثال، قد تكون الأتمتة (التشغيل الآلي) والتكنولوجيات الرقمية، غير ملائمة إذا أنتجت تأثيرات غير مرغوب فيها بين عدد كبير من العمال، كما يلاحظ أنطون كورينك من جامعة فيرجينيا، فإن كل الإبداعات والابتكارات ذات حدين: فهي من الممكن أن تعمل على تعزيز الإنتاجية في مجمل الأمر، لكنها قد تتسبب أيضاً في توليد تأثيرات إعادة توزيع حادة لأصحاب رأس المال على حساب العمال، وعندما لا تكون مكاسب الإنتاجية الإجمالية كبيرة جداً، فمن الممكن أن تفوقها وزناً (من منظور مجتمعي) تأثيرات إعادة التوزيع السلبية وهي الظاهرة التي يسميها الاقتصاديان دارون عاصم أوغلو وباسكوال ريستريبو إبداع «النصف نصف».

تقدم لنا الروبوتات أوضح مثال على هذا التحول المعاكس ضد العمال، ويعمل الذكاء الاصطناعي على توسيع نطاق مجالات من الممكن أن تصبح الصراعات المتعلقة بالتوزيع كبيرة، وكما يشير كورينك، فإن برنامج المحادثة الآلية (chatbot) الذي يحل محل العمال البشريين يعزز عائدات مهندسي الذكاء الاصطناعي وأصحاب الشركات، في حين يزيح العمال الحاصلين على تعليم أقل من الجامعي، ويتعاظم هذا التأثير في البلدان النامية حيث تشكل العمالة المنخفضة التكلفة المصدر الوحيد للميزة النسبية.

علاوة على ذلك، لا تكمن المعرفة في البذور أو البرمجيات فحسب، بل أيضاً في الأعراف الثقافية، ففي حلقة النقاش ذاتها التي نظمتها الرابطة الاقتصادية الدولية، تحدث الخبير الاقتصادي ناثان نون عن نوع زمني مختلف من التباين حيث من الممكن أن تصبح المعرفة والممارسات التي كانت مناسبة لمجتمع ما في وقت ما عاجزة عن أداء وظيفتها في وقت لاحق، حيث تعمل التقاليد الثقافية على تمرير المعرفة المفيدة إلى أجيال المستقبل، على سبيل المثال، من الممكن أن تساعد الطقوس الدينية في تنسيق زراعة المحاصيل، ومن الممكن أن تعمل تقنيات طهي معينة ينقلها كبار العائلة على توفير الحماية من السموم الغذائية، ولكن لأن الأعراف الثقافية تتطور ببطء، فقد تتسبب التغيرات السريعة في المجتمع في إنتاج «تباين تطوري».

استناداً إلى عمله مع ليونارد وانتشيكون، يقدم نون مثالاً لتجربة إفريقيا الصادمة مع العبودية العابرة للقارات، وقد طورت المجتمعات في إفريقيا التي كانت الأكثر اتصالاً بتجار الرقيق انعدام ثقة عميقاً في الغرباء، مما جعل لديها ميلاً ثقافياً معاكساً لتطوير اقتصاد سوق مزدهر في عالَم اليوم، وعلى نحو مماثل، يبدو أن نفور الأميركيين من إعادة التوزيع يعكس درجة عالية من الحراك الاقتصادي في أميركا في الماضي، وليس الحقائق الحالية.

سواء اتخذت هذه التباينات هيئة تكنولوجيات أو ممارسات ثقافية غير مناسبة، فإنها يجب أن تُعالَج إذا كان للمعرفة أن تعود بالفائدة على المجتمع، وتتلخص إحدى الاستراتيجيات في رفع الوعي، هكذا ساعدت حركة حماة البيئة في توجيه الطلب الاستهلاكي بعيداً عن الوقود الأحفوري وحشد الدعم لتطوير مصادر الطاقة المتجددة، ومن الممكن أن تعمل حركة مماثلة، «تكنولوجيا من أجل العمال»، على إعادة توجيه الإبداع في اتجاه أكثر ملاءمة للعمل، وإن تعزيز أصوات أصحاب المصلحة المعنيين مثل العمال والبلدان الفقيرة في القرارات المتعلقة بالابتكار والتكنولوجيا من شأنه أن يوفر الحماية من تبني تكنولوجيات غير ملائمة.

تشكل السياسات العامة أيضا أهمية حاسمة، فقد كانت الثورة الخضراء في القرن العشرين مدفوعة بإدراك واضح لحقيقة مفادها أن تحسين الإنتاجية الزراعية في البلدان المنخفضة الدخل يتطلب تطوير أنواع بذور عالية الغلة تناسب البيئات الاستوائية، ورغم أننا نفتقر إلى جهود مماثلة متعددة الأطراف لسد الفجوات التكنولوجية العالمية اليوم، يشير موسكونا إلى بلدان عديدة متوسطة الدخل (الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا) لديها القدرة على تطوير تكنولوجيات أكثر ملاءمة للاقتصادات النامية.

ولكن حتى في هذه البلدان، يميل الإبداع والابتكار إلى اتباع معايير وتفضيلات وادي السليكون، وليس الاحتياجات المحلية، وينبغي لصناع السياسات والمبدعين أن يتذكروا أن ما يُمَكِّنُنا ليس المعرفة، بل المعرفة المفيدة.

*داني رودريك أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في كلية كينيدي في جامعة هارفارد، ويشغل منصب رئيس الرابطة الاقتصادية الدولية، هو مؤلف كتاب «حديث صريح حول التجارة: أفكار من أجل اقتصاد عالمي مُتعاف».