كيف عاش المسيحيون واليهود المصريون على امتداد عدة قرون في ظل الدولة العثمانية؟ وكيف تعامل الأتراك العثمانيون معهما؟ وما المشاكل التي جابهها العثمانيون ورعاياهم من أهل الذمة؟

«على وجه العموم»، يقول الباحث «ميكل ونتر» winter في كتابه، «المجتمع المصري تحت الحكم العثماني»، «فإن الفتح العثماني قد حسّن من ظروف الجالية اليهودية، وذلك أن الحكم المملوكي- الذي سبق الحكم العثماني في مصر كان حكما طاغيا مستغلا تعسفيا، يميل الى ظلم الأقليات الدينية، إذ ارتفعت وتيرة أخذ الأموال عنوة، وتدمير دور العبادة الخاصة بأهل الذمة وغير ذلك من أشكال الاضطهاد.

Ad

(ترجمة إبراهيم محمد إبراهيم، القاهرة، 2001، ص299، Egyptian Society under ottoman rule).وكان العثمانيون في القرن السادس عشر في قمة سلطتهم، وكانت هزيمة المماليك في موقعة «مرج دابق» عام 1517، أي أوائل القرن، وقد اتسم الحكم العثماني خلال سنوات هذه البداية بالحزم والثقة بالنفس وحسن الاستفادة من الموارد المادية والبشرية، يقول الباحث «بما في ذلك ما تمتع به أبناء أقلياتهم من مواهب اقتصادية».

ويقول «ونتر» إن الدولة العثمانية «كانت دولة سنية محافظة، إلا أنها كانت براغماتية عملية ومستنيرة بالمقاييس المعاصرة، ذلك أن المعاملة العادلة عامة، والتوجه النفعي المدبر، أسهما في رفاهية الذميين فيها».

كان من سلبيات النظام العثماني المعروفة ترحيلهم العمال الفنيين والحرفيين ذوي الكفاءة والمهارة إلى عاصمة الدولة إسطنبول.

ويقول «ونتر» إنه بعد فترة قصيرة من دخول السلطان سليم مصر «كان يهود القاهرة من بين أولئك الذين تم ترحيلهم إلى إسطنبول، بمقتضى النظام العثماني التقليدي بالنفي الإجباري» (السورجون- Surgun).

كان إجمالى عدد الأقباط في مصر، حتى نهاية القرن الثامن عشر، كما جاء في الهامش، يقدر بنحو 150 ألفاً أو نحو سُبع إجمالي السكان، كان عدد من يعيش منهم في القاهرة عشرة آلاف في حين كان معظم الأقباط يعيشون في الصعيد والفيوم، وكان إجمالي عدد اليهود في الفترة نفسها نحو خمسة آلاف نحو ثلاثة آلاف منهم في العاصمة والباقي في الإسكندرية ودمياط ورشيد وغيرها.

كان إجراء الترحيل إلى إسطنبول إجراء قاسيا بلا شك، وقد استاء منه القاهريون، ويضيف ونتر: «إنه لا يمكن اعتبار الإجراء معاديا لليهود، بل يجب النظر إليه باعتباره اعترافا عثمانيا بالمهارات الخاصة لدى الجالية اليهودية، تماما مثل غيرهم من الجماعات الأخرى ممن تم ترحيلهم والتي كانت تتألف من التجار والحرفيين والكتبة، أو صغار الموظفين الذين انتقاهم الفاتحون لممارسة مهاراتهم في العاصمة العثمانية».

وكان يُنظر إلى اليهود كطبقة مهنية أكثر من النظر إليهم كأقلية دينية أو بالمثل، فإن المسيحيين، الذين تم إرسالهم إلى إسطنبول- يقول المؤلف- كانوا من موظفي الخزانة.

كان «خير بك» أول حاكم عثماني لمصر (1517- 1522)، وينحي بعض المؤرخين عليه باللوم لإعطائه إبراهيم اليهودي، مدير إدارة سك العملة، السلطة في أن يأخذ نقود المسلمين، كما عين «خير بك» رجلا مسيحيا يسمى «الشيخ يونس» في منصب المدير الأول لمكاتب الدولة، «مما جعل المسلمين مرؤوسين لديه».

لم يتردد «خير بك» في فرض أحكام قاسية في الوقت نفسه على الموظفين اليهود والمسيحيين بدار سكّ العملة وعلى الصرافين أحيانا، إذ ضرب أحد موظفي «دار السك»، ثم أمر باقتياده في شوارع القاهرة وذراعه المبتورة معلقة على أنفه، وفي حادثة أخرى، تم إعدام يهودي ومسيحي «بالوضع على الخازوق» بسبب إفساد العملات.

ويقول «ونتر» إن «خير بك» كان قاسيا مع أهل الذمة والمسلمين على حد سواء، فعندما اشتكى أحد اليهود الأتراك أمام قاض عثماني في زمن «خير بك» ضد أحد أمراء المماليك، «فاجأ قرار القاضي القاهريين الذين لم يعتادوا على أن يقاضي يهودي أميراً مملوكيا، ناهيك عن أن يكسب القضية».

غير أن اليهودي في هذه القضية كان من خارج مصر، وكان يهود مصر معرضين للخطر في الأزمات السياسية كتغير في الحكومة أو وقوع تمرد، ومنها وفاة «السلطان سليم» عام 1520، إذ «هدد الانكشارية- وهم مجندون عثمانيون- يهود القاهرة، زاعمين أن هناك عادة قديمة تسمح لهم بنهب حارة زويلة، وهي حى اليهود، وحين تدخل العديد من الأمراء، هدد الانكشارية بنهب المدينة بأكملها، غير أنهم تراجعوا بعد استرضائهم بدفع مبلغ من المال، وبعد ذلك بفترة قصيرة، حين أصبح الجو متوترا مرة أخرى، في القاهرة، خبأ اليهود أقمشتهم القيّمة وحصّنوا حيهم»

ويشير «ونتر» إلى أن المماليك عموما، كانوا «أكثر عداء لليهود من العثمانيين، باعتبارهم- أي المماليك- أكثر تعصبا للدين».

وتتطرق د. ليلى عبداللطيف أحمد، المدرسة بجامعة الأزهر، إلى الخطوات التي اتخذها «السلطان سليم»، أول دخوله إلى مصر، فتقول: «أمر السلطان سليم بإرسال عدد من أصحاب الحرف والصناعات إلى إسطنبول للاستفادة من خبرتهم، وقد ضم الفريق المرسل عددا من المهندسين والبنائين والنجارين والحجارين والحدادين والمبلطين والمرخمين- المشتغلين بصقل وتركيب الرخام- وغيرهم من أرباب الحرف المهرة في فنونهم، وكذلك أرسل من مصر إلى إسطنبول عددا من كبار المماليك وأسرهم وعددا من كبار التجار والأعيان».

وتنقل الباحثه عن المؤرخ «ابن إياس» صاحب التاريخ المعروف «بدائع الزهور في وقائع الدهور»، أن السلطان سليم لما أخذ من مصر هؤلاء الجماعة أحضر غيرهم من إسطنبول يقيمون بمصر، وقيل إن هذه عادة عندهم، «إذا فتح مدينة يأخذ من أهلها جماعة يمضون إلى بلاده، ويحضر من بلاده جماعة إلى تلك المدنية عوضا عن الذين أخذهم منها»، وتقول الباحثة: «طبق العثمانيون سياسة النفي والترحيل في مخلتف البلاد التي افتتحوها، فنقلوا جماعات من الأناضول إلى البلقان أو بالعكس لأسباب تأديبة، أو لإيجاد عناصر موالية للحكم العثماني أو لنقل الخبرات».

(الإدارة في مصر في العصر العثماني، القاهرة 1978، ص 29-30)

كانت مصر، كما هو معروف عبر التاريخ، دولة بالغة الأهمية، وقد تمتعت مصر بأهمية خاصة بين ولايات السلطة العثمانية، ويقول المؤرخ د. حسن عثمان إن مصر «كانت تعبتر ثاني ولاية في الأهمية بعد ولاية المجر» (المصدر نفسه، ص25)

وعن ظروف سقوط «طومان باي» آخر حكام المماليك على يد العثمانيين، تورد الباحثة د. ليلى أحمد، أن «طومان باي» اضطر للانسحاب من الميدان، «والتجأ إلى الشيخ حسن بن مرعي، أحد زعماء العربان الذي كانت له أفضال عليه، ولكن الشيخ خانه وسلمه إلى السلطان سليم، وقد تردد السلطان سليم في تقرير مصير طومان باي لإعجابه بشخصيته وتقديره لشجاعته، لكنه قرر في النهاية إعدامه والتخلص منه، وفعلا شنق طومان باي على باب زويلة في 23 أبريل 1517، وبذلك انتهى حكم المماليك، وتحولت مصر من سلطنة كبيرة- باعتبارها مقر وعاصمة دولة المماليك- إلى ولاية تابعة للدولة العثمانية». (الإدارة في مصر، ص26 -27)

وتتبع السلطان سليم كبار الأمراء المماليك بالقتل والمصادرة «بعدما استدرجهم عن طريق منحهم الأمان في البداية ثم الغدر بهم، ثم أخرج السلطان سليم الخليفة العباسي أمير المؤمنين (المتوكل على الله) إلى إسطنبول، للقضاء على كل أثر لمنافسة الحكم والإدارة العثمانية في مصر».

ويروي ابن إياس أن «الشيخ حسن بن مرعي»، الذي سلم «طومان باي» للسلطان سليم، تعرض بعد عامين للانتقام والثأر، وانتقم المماليك- وكان لا يزال لهم وجود- من حسن بن مرعي وأخيه بقتلهما شر قتلة بعد خداعهما.

(الإدارة، ص 26).

ولجأ السلطان سليم إلى خطوة أخرى في القاهرة لتوطيد الحكم العثماني، وتقول د. ليلى أحمد في كتابها، إن السلطان أبقى على البقية الباقية من المماليك، فأصدر أوامر مشددة «بعدم التعرض لهم أو لممتلكاتهم وباستمرار صرف مرتباتهم كما جرت العادة، وذلك لأنه أراد الاحتفاظ بهم كعنصر ذي خبرة مهمة بشؤون الإدارة يساعد الإدارة العثمانية الجديدة، وتنفيذاً لهذه السياسة عين بعض أمراء المماليك في المناصب الإدارية المهمة».

وتضيف د.أحمد: «وقد أبدى السلطان سليم الأول تقديره لقوة العرب في مصر والدور الذي يمكن أن يقوموا به لمساعدة الإدارة في عملها، فأقر شيوخ الهوارة على إمارة الصعيد، كما استقبل شيوخ العرب الآخرين في إقليم الجيزة وغيرهم وخلع عليهم الخلع، وأقرهم على امتيازاتهم التي كانت لهم في العهد المملوكي، وتلك كانت السياسة العامة للسلطان سليم، فقد أقر العصبيات العربية من قبل في بلاد الشام في مناطقها وعهد إلى زعمائها بالإشراف على أتباعهم وجمع المال المفروض للدولة عليهم».

(الإدارة، ص 29)

وفي المراجع التاريخية كذلك، ومنها كتاب «وقائع الدهور» نماذج أدبية تعكس الصراع السياسي والعسكري الذي انتهى بتصفية حكم المماليك وقيام «دولة بني عثمان».

فمن كان يبكي زوال حكم المماليك قال:

نبكي على مصر وسكانها

قد خربت أركانها العامرة

وأصبحت بالذل مقهورةً

من بعد ما كانت هي القاهرة

ومن رحّب بالسلطان سليم والعثمانيين والأتراك قال:

يا ملوك الترك امضوا

جاء للملك سليم

ملكُكُم كان عوراي

والعواري لا تدوم

(العواري: جمع عارية وهو ما تعطيه لغيرك بعض الوقت).