العبرة لمن يعتبر... مقولة راسخة في الضمير الإنساني وفي تاريخ الأمم، فحينما يتم الإصرار على المُضيّ بدرب سياسي من دون منطق ومن دون حكمة، وإنما بعشوائية وبتخبطات وانفعال... فإن العواقب غالباً ما تأتي عكسية.

مشهد اليوم أشبه بالبارحة، فقد عشت ثلاث مراحل لثلاث تجارب، كان التعجل والاندفاع وغياب الحكمة سبباً لما آلت إليه الأمور.

Ad

المرحلة الأولى كانت في مجلس 1985، وتحديداً عام 1986، حينما أفرزت الانتخابات أغلبية من المعارضة التي علّق عليها الشعب آمالاً عريضة، غير أن تلك الأغلبية كانت تعيش سطوة أغلبية برلمانية، ظنت أنها أصبحت تتحكم بالسلطتين، فكانت ترغب بأن تسير الحكومة وفقاً لتوجيهاتها، ولم تُعر اهتماماً لأحكام الدستور، وأخذت تتدافع بفرض مسار الحكومة من جهة، وتتسابق للضغط عليها باستجوابات غير منطقية متتالية، بلغت خمسة استجوابات في وقت واحد، فرفعت الحكومة استقالتها وعدم قدرتها على التعاون مع مجلس الأمة، فجاء حل المجلس، بل وعُلّقت أحكام الدستور، وخسر البلد ومعه الشعب المشاركة الشعبية والمكتسبات الدستورية، وتراجعت أحوال البلد، وتلاحقت الأزمات، وكانت بدايتها قِصَر نظر أعضاء المجلس وعدم نجاحهم بإدارة المشهد البرلماني بحكمة وتوازن، ونهايتها سلطة غير مؤمنة بالنهج الديموقراطي وتتحيّن الفرص، وضاعت في ثناياها تفاهمات تزخر بها الأنظمة البرلمانية.

والثانية كانت عام 2012 حينما ظهرت لدينا أكبر كتلة معارضة في مجلس الأمة، وصل عددها إلى 36 عضواً، لكن... وأخ من لكن... لم تحسن تلك الأغلبية التفاهم بينها، وأخذها الغرور بأغلبيتها، وكانت تسعى إلى أن تجمع عملياً بيدها السلطتين التشريعية والتنفيذية من إملاءاتها وانحرافها في استخدام أدوات المساءلة، فلم تمهلها السلطة التي وجدت الفرصة مواتية، بعد أن تم إبطال المجلس بحُكم المحكمة الدستورية، فتم تغيير قواعد اللعبة السياسية والأسس الديموقراطية، وتم تغيير نظام الانتخابات، وحدث شرخ سياسي واجتماعي، وكُبّلت الحريات، وتزايدت الملاحقات السياسية، وقُيّدت حرية الكلمة، وعشنا مرحلة من التفرد والاستبداد والملاحقات، مع وجود مجالس منتخبة!

وها نحن اليوم نجد أغلبية برلمانية سعى الشعب إلى إنجاحها، عاقداً الآمال على قدرتها على التحول إلى دور إيجابي في التعاطي السياسي والممارسة البرلمانية، وولدت في أجوائه حكومة مختلفة جاءت على أثر نقلة نوعية بعهد جديد لإنهاء مرحلة استمرار رئيسين طالب الشعب بإبعادهما، فتم حل المجلس، وعُدّل النظام الانتخابي لتطهيره من العبث بالقيود وملاحقة شراء الأصوات ومنع الانتخابات الفرعية.

وبدأت أولى جلسات المجلس الجديد بامتناع عن التصويت بانتخابات الرئيس ونائبه وباللجان، وتلاحقت خطوات غير مسبوقة من الحكومة توّجتها بتقديم برنامج عمل بموضوعات محددة وجدول زمني محدد، ومع ذلك ظهر التعسف البرلماني وتنافس الزعامات ونشوة البطولات وتسابق لإقرار ارتجالي لمقترحات القوانين الشعبوية، حتى وصلنا إلى طريق مسدود، فقدمت الحكومة استقالتها!

وها نحن نعود إلى المربع الأول، ونعيش أزمة خُلقت من لا قضية سوى قصر النظر والتدافع للتكسبات الانتخابية، وأي احتمال يكون في غير مصلحة الشعب والبلد يتحمّل تبعاته المجلس وأعضاؤه، فهم مَن وضعوا العربة أمام الحصان، ليقول لنا طريق البلد مسدود، وهو أمر مؤسف ومحزن، وينقصه حُسن التقدير السياسي.

ولا يعني ذلك عدم تحمُّل الحكومة المسؤولية عمّا آل إليه المشهد السياسي، فهي غائبة أو مُغيّبة عن الساحة، فقد كان عليها أن تخرج عن صمتها وتوضّح للناس وجهة نظرها، وتردّ على آراء وأطروحات الأعضاء بشجاعة ورباطة جأش، من دون تخفٍّ وغياب لا يمكن أن يُبرّر، وكان عليها أن تسوق مشاريعها وبدائلها وبرنامجها من خلال رسائل إعلامية وحضور إعلامي، وهو ما قصّرت به، وأدى إلى تسارُع عجلة الأحداث، ونجاح المتربصين والمندفعين من النواب!

فليُعد كل عضو حساباته، لعله يقوّم المسار قبل فوات الأوان، وليكُن للحكومة تحرُّك مختلف لإعادة القطار إلى سكته... فسدُّها مؤقّت بإذن الله.