عند الحديث عن حوكمة القطاع العام يتم التركيز غالباً على الالتزام بمجموعة من المبادئ المعروفة، مثل: الشفافية، والمساءلة، والمشاركة، والنزاهة، والعدالة، وسيادة القانون، والاستدامة.
ورغم أهمية هذه المبادئ، فإن التعامل معها بوصفها قائمة امتثال يحوِّل الحوكمة إلى ممارسة شكلية، ويُضعف قُدرتها على تحسين جودة العمل الحكومي.
الحوكمة في جوهرها تبدأ من سؤال مختلف: هل استوفى القرار الحكومي الاعتبارات اللازمة قبل اتخاذه؟ وهل جرى تقدير آثاره بصورةٍ متكاملة؟ فالقرار الحكومي لا يقتصر على كونه إجراءً تنظيمياً أو إدارياً، بل يمتد أثره إلى الجوانب الاقتصادية والاجتماعية. وقد أظهرت بعض الممارسات العامة في الإدارة الحكومية أن قرارات سليمة في أهدافها قد تُفضي إلى نتائج غير مقصودة إذا لم تخضع لتقييم مسبق للأثر، مثل: إعادة هيكلة الرواتب، أو زيادة أسعار الخدمات بشكلٍ مفاجئ، أو تسريع إجراءات من دون جاهزية مؤسسية كافية، وهي حالات قد لا تحقق كامل أهدافها، ليس لخللٍ في المقصد، لكن «لغياب منهجية حوكمة القرار وتقييم آثاره المحتملة قبل التطبيق».
وهنا تبرز أهمية التمييز بين أدوار مختلفة داخل أجهزة الدولة. فالأجهزة الرقابية تراجع ما حدث بعد التنفيذ، والجهات التنظيمية تضع الأطر العامة، لكن يبقى فراغ مؤسسي في مرحلة ما قبل القرار: مَنْ ينسِّق السياسات بين الجهات؟ ومَنْ يختبر السيناريوهات البديلة؟ ومَنْ يضمن اتساق القرار مع بقية السياسات الحكومية والرؤية الوطنية (الكويت 2035)؟
إن معالجة هذا الفراغ لا تتطلب مزيداً من اللوائح أو التعقيد الإداري، بل تستدعي تبنِّي مفهوم حوكمة السياسات وصناعة القرار، من خلال «إنشاء وحدة متخصصة لحوكمة صُنع القرار تتبع رئيس الوزراء مباشرةً»، وتعمل كجهةٍ استشارية تنسيقية قبل صدور القرارات الاستراتيجية ذات الأثر الواسع. وهذا النموذج ليس جديداً، فقد طوَّرت سنغافورة Strategy Group ضمن مكتب رئيس الوزراء لتنسيق السياسات بين الوزارات، فيما يقوم Cabinet Office في بريطانيا بدور «مركز الحكومة»، لضمان اتساق السياسات ودعم جودة القرار.
وجود وحدة مماثلة لا يعني التدخل في صلاحيات الجهات، بل طرح الأسئلة الصحيحة في الوقت المناسب، وتقديم بدائل قابلة للتطبيق ضمن أطر زمنية واضحة.
إن بناء دولة قادرة على تحقيق مستهدفاتها لا يعتمد فقط على سرعة إصدار القرارات، بل على «جودة القرار، واتساقه مع الرؤية الوطنية ومع بقية السياسات، وقابليته للتنفيذ والاستدامة».
ومن منظور السياسات العامة، فإن اعتماد منهجية لتقييم الأثر قبل اتخاذ القرار، اقتصادياً، واجتماعياً، ومؤسسياً، يمثل استثماراً في كفاءة أجهزة الدولة، وتقليل كلفة النتائج غير المقصودة. كما أن وجود آلية تنسيقية مركزية تدعم صُنع القرار، وتكشف التعارضات المحتملة بين السياسات، يعزز فاعلية السُّلطة التنفيذية، ويقوِّي الثقة العامة بأدائها.
إذن الحوكمة هنا ليست امتثالاً شكلياً، بل هي منهج عمل يضمن أن تكون السياسات والقرارات أكثر رُشداً، وأكثر اتساقاً، وأكثر قدرةً على تحقيق مقاصدها المرجوّة.
*متخصص في الحوكمة وعضو معهد الحوكمة المعتمد في بريطانيا وأيرلندا