قبل خمسة عشر عاماً، حين قمت بأول مشروع لي وهو تاكسي حواء، لم أكن أفكر في ريادة الأعمال كما تُقدَّم اليوم، ولا في نماذج الأعمال ولا في قصص الثراء السريع، كنت فقط فتاة كويتية ترى احتياجاً واضحاً بين بنات جنسها، وتسأل سؤالاً بسيطاً لماذا لا تكون هناك خدمة نقل تقودها نساء، مخصصة للنساء، وتوفّر لهن الأمان والخصوصية؟

انطلقت الفكرة بإيمان صادق وبدراسة سوق وجدوى من أحد أكبر المراكز الاستشارية، وبدأ المشروع فعلياً لعدة أيام، قبل أن يتحول سريعاً من مبادرة خدمية إلى قضية عامة، دخلت في معركة قانونية طويلة، حُمِّل فيها المشروع أكثر مما يحتمل كيان ناشئ سبق زمنه، في نهاية المطاف خسرت القضية، ومعها مبلغاً كبيراً من المال، والأهم أنني واجهت مرارة الخسارة وقسوة تجربة لم تكن تُعرض في أي خطاب عن ريادة الأعمال.

أتذكرها اليوم بابتسامة، لأنني بعد هذه السنوات والخبرات أدرك أن تجربتي لم تكن استثناءً، فقد علّمتني الكثير رغم مرارتها، وصقلت شخصيتي وطوّرتني، ما دفعني للكتابة هو تغيّر المشهد تماماً.

Ad

(قدّم استقالتك وابدأ مشروعك) عبارة تتكرر في إعلانات السوشيال ميديا، محاطة بصور سيارات فارهة، وأكياس علامات تجارية، وتحويلات مالية بأصفار كثيرة، ورسالة واحدة مباشرة، الطريق سهل، والثراء ينتظرك، لكن الواقع مختلف تماماً.

ريادة الأعمال ليست قفزة، ولا قراراً لحظياً، ولا وصفة جاهزة تُكرَّر مع الجميع، هي مسار طويل ومتعب، مليء بتحديات لا تظهر في الإعلانات، ما لا يُقال غالباً أن أغلب المشاريع لا تبدأ بأرباح، بل بخسائر، ولا تبدأ بالتصفيق بل بالشك، ولا تُبنى في أسبوع بل في سنوات من المحاولة والتعلّم والوقوف بعد التعثّر.

في الواقع العملي، تواجه المشاريع قوانين وأنظمة وسوقاً متقلباً ومجتمعاً قد لا يكون مستعداً للفكرة بعد، تجربتي مع تاكسي حواء كانت درساً مبكراً أن إدخال مشروع ناشئ في معركة عامة قد ينهكه قبل أن يقف على قدميه.

ريادة الأعمال في جوهرها اختبار طويل للنَفَس، للصبر والمرونة والقدرة على التكيّف، بعض الأفكار لا تفشل لأنها خاطئة، بل لأنها سبقت زمنها، وبعض التجارب لا تنتهي بنجاح ظاهري لكنها تبني وعياً لا يُقاس بالأرقام.

من هنا، وحتى لا ينجرف الشباب وراء بائعي وهم الثراء، أوجّه حديثي إلى صُنّاع القرار بأننا بحاجة إلى حاضنة أعمال للمشاريع الصغيرة، لا تبيع الحلم بل تختبره، وتدرّب المبادر على مهارات السوق، والفهم القانوني، والتخطيط المالي، وإدارة المخاطر، إلى جانب مهارات شخصية أساسية كالصبر واتخاذ القرار والتعامل مع الفشل.

كما يجب الاعتراف بحقيقة كثيراً ما يتم تجاهلها، ليس كل شخص مهيّأ لأن يكون رائد أعمال. الريادة ليست شغفاً فقط، بل شخصية تتحمّل التقلب وعدم اليقين والخسارة والوحدة، بعض الشخصيات تزدهر في هذا المسار، وأخرى تُرهقها تكلفته مهما كانت الفكرة جيدة.

ريادة الأعمال ليست صعوداً مستمراً بل طريقاً وعراً يحتاج إلى انضباط والتزام وتطوير عقلي وشخصي دائم، أن تسقط، تتعثّر، تحزن، تمسح دموعك ثم تعود لتقف من جديد.

في زمن تُسوَّق فيه الريادة كثراء سريع، نحن بحاجة إلى خطاب صادق يقول إن البحر ليس للجميع، وإن السباحة مهارة تُكتسب لا اندفاعاً يُجرَّب، فمن لا يعرف طبيعة الموج، لن تنقذه الشجاعة وحدها مهما بدا البحر مغرياً.