كيف يمكن تصور وجود أزمة اقتصادية حقيقية ــ بطالة بين الداخلين الجدد إلى سوق العمل، وتضخم أو كساد ــ في بلد لا يتجاوز عدد مواطنيه نحو مليون ونصف المليون، بينما يفوق عدد الوافدين ثلاثة ملايين؟ في أسوأ الأحوال، يبدو الإحلال المنظم للعمالة الوطنية محل الوافدة خياراً بديهياً. ولو أُحسن تطبيقه، لما وُجدت بطالة، ولما قلقنا على مصير مئات الآلاف من الشباب المقبلين على سوق العمل في السنوات القريبة.
غير أن الواقع يقول شيئاً آخر. فكما نبّه د. أسعد عبدالرحمن قبل سنوات طويلة، ما زال النموذج الريعي الاتكالي حاضراً، وما زالت الحكومات المتعاقبة تفتقر إلى الفكر والإرادة لقلب هذا الواقع. يكتب عبدالرحمن أن «هناك وفرة مالية وقلة سكان، وتوجد خدمات أساسية كالمدارس والمستشفيات... لكن نمط تقديم هذه الخدمات في دول المنطقة ليس نمطاً منتجاً، بل استهلاكي، لأنه يكتفي بمساعدة الناس، لا بمساعدتهم كي يساعدوا أنفسهم»، وهو بذلك يخلق «الإنسان المستهلك لا المنتج» (البيروقراطية النفطية ومعضلة التنمية).
بعض دول المنطقة انتبهت مبكراً لهذه المفارقة. السعودية شرعت في مسار إصلاحي واسع لتغيير بنية الاقتصاد وسوق العمل. وفي البحرين وعُمان فرض تناقص الموارد واقعاً جديداً: المواطنون يعملون اليوم في مختلف القطاعات، العليا والدنيا، ولم يعودوا مجرد تروس في ماكينة بيروقراطية دولة الموظف المتضخمة.
أما عندنا، فما زال السؤال معلقاً. يشير تقرير الشال إلى «ما لا نعرفه حتى الآن: دور الاستثمارات الأجنبية في خلق فرص عمل مواطنة مستدامة». ولو افترضنا أن مؤسسات الاستثمار الأجنبي أعلنت حاجتها إلى فنيين أو عاملين في خدمات محددة بشرط أن يكونوا من المواطنين، فهل يمكن تلبية هذا الطلب؟ وهل جاءت التخصصات الدراسية لغالبية الشباب ــ من الجنسين ــ متوافقة مع احتياجات سوق العمل، ليس في الجهاز الحكومي فحسب، بل في القطاع الخاص أيضاً؟
التجربة القريبة لا تبعث على الاطمئنان. قبل سنوات، صرّح مسؤول في وزارة التربية والتعليم بأن عدد خريجي العلوم من المواطنين الذين تحتاجهم الوزارة في الفيزياء والكيمياء لا يتجاوز أصابع اليدين، بينما يفوق خريجو التربية الرياضية والعلوم الشرعية الحاجة بكثير. والسؤال المشروع اليوم: ما حاجتنا إلى مزيد من خريجي الإدارة العامة أو العلوم السياسية في بلد لا تتوافر فيه إدارة عامة فعّالة ولا حياة سياسية بالمعنى المؤسسي؟
إنها، في جوهرها، قضية غياب سياسة تعليمية وتنموية تعمل على تمكين الإنسان، لا استغراقه في الاستهلاك. دولة لم تضع يوماً نصب عينيها مبدأ «مساعدة الناس كي يساعدوا أنفسهم»، بل اكتفت بتغذية نمط استهلاكي مُدمن. والنتيجة: فجوة متسعة بين التعليم وسوق العمل، وبين الثروة والإنتاج، وبين الإنسان ودوره الحقيقي في التنمية.