نسمع كثيراً اليوم أن الذكاء الاصطناعي سيستبدل الموظفين، وأن موجة تسريحات ضخمة قادمة لا محالة. قد يكون هذا صحيحاً إذا نظرنا إليه في سياقه التاريخي، فكل ثورة تكنولوجية حملت معها القلق ذاته، وكل تحوّل كبير أعاد تشكيل سوق العمل، ألغى أدواراً وخلق أخرى. لكن السؤال الأهم ليس هل سيحدث ذلك أو متى، بل من سيستبدله الذكاء الاصطناعي: الداخلون الجدد إلى سوق العمل أم أصحاب الخبرة الطويلة؟
هناك حجج منطقية لكل جانب، فمن جهة، يُعد الداخلون الجدد الأكثر قدرة على التكيّف مع الذكاء الاصطناعي. هم جيل نشأ في بيئة رقمية، ويتعامل مع الأدوات الذكية بسلاسة وسرعة تعلُّم عالية. فلماذا يتم الاستغناء عنهم، وهم الأسرع في التعلّم والتطبيق؟
ومن جهة أخرى، فإن أصحاب الخبرة، إذا امتلكوا القابلية للتكيّف مع الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية، يستطيعون إنجاز مهام متعددة بكفاءة أعلى، ويجمعون بين عمق الخبرة وسرعة الإنجاز، مما يجعلهم أصولاً يصعب التفريط بها.
وما يثير القلق الحقيقي هو احتمال نشوء فجوات في سوق العمل، فالاستغناء عن الداخلين الجدد يعني غياب الإحلال الوظيفي والتخطيط للتعاقب، وانقطاع تدفّق الدماء الجديدة، وضعف نقل الخبرة عبر الأجيال.
وفي المقابل، فإن الاستغناء عن أصحاب الخبرة يخلق فجوة من نوع آخر، تتمثل في فقدان المعرفة المتراكمة، وروح المؤسسات، وثقافتها غير المكتوبة. عندها يصبح المشهد ضبابياً: مَن سيحل محله الذكاء الاصطناعي فعلًا؟ وكما هي العادة، لا توجد إجابة واحدة حاسمة، فالأمر يعتمد على السياق، وعلى طبيعة المؤسسة، وعلى الأفراد أنفسهم. الواقع غالباً ما يكون خليطاً غير متجانس من توقعاتنا، لا يتحقق كما نتخيله تماماً، ولا يخالفه كلياً.
ما يبدو أكثر ثباتاً من غيره هو أن تبنّي الذكاء الاصطناعي، بغضّ النظر عن الموقع الوظيفي، يزيد من فرص البقاء. ليس لأن الذكاء الاصطناعي بحد ذاته يحمي صاحبه، بل لأن القدرة على العمل معه تعني أنك جزء من الموجة، لا ضحيتها.
بالنسبة للداخلين الجدد، فالتحدي الأكبر مرتبط بأنظمة التعليم، فحين تعتاد المؤسسات على «الموظف الاصطناعي» المتعدد المهارات، الواسع المعرفة، والقادر على العمل عبر مجالات مختلفة، يصبح من الصعب تقبّل خريج لا يزال أسير تخصص واحد ضيّق، في عالم بات يتطلب عقلية متعددة الأبعاد. لا تزال أنظمتنا التعليمية أحادية التخصص، بينما يتجه الواقع المهني نحو التكامل والترابط بين المعارف.
النصيحة هنا بسيطة في ظاهرها، عميقة في جوهرها: كن فضولياً، وطوّر نفسك كموهبة متعددة الأبعاد، تجمع بين المهارات التقنية والقدرة على بناء العلاقات الإنسانية، مع قابلية عالية للتكيف مع الذكاء الاصطناعي. هذا هو الطريق الأقرب لركوب هذه الموجة بدل الغرق فيها.
أما أصحاب الخبرة، فالرسالة أكثر وضوحاً: لا تقاوموا التغيير، احتضنوه، واستخدموا الذكاء الاصطناعي لمضاعفة أثر خبرتكم، ورفع إنتاجيتكم إلى أضعاف مضاعفة، فالخبرة حين تقترن بالأدوات الذكية، تتحول من عبء محتمل إلى قوة تنافسية هائلة.
ورغم كل هذا الالتباس الذي يطبع عالمنا اليوم، فإنه عالم يحمل قدراً كبيراً من الإثارة. نحن نعيش لحظة تحوّل نادرة، مليئة بالأسئلة والمخاطر، لكنها في الوقت ذاته مليئة بالفرص لمن يملك الشجاعة على التعلّم، والمرونة على التغيير.