تعالت أصوات عربية منادية بالسلام والتعايش السلمي مع الكيان الصهيوني إذا تمت إقامة الدولة الفلسطينية على حدود ما قبل 1967، وفقاً للقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن!
وقد كانت بداية هذا الطرح من جمال عبدالناصر أواخر عام 1969 وبداية عام 1970، وهو طرح واهم ولا يدرك الحقائق التوسعية للكيان الصهيوني أو يتعمد إغفال ذلك! كما أنه يتعمد إغفال الواقع الجيوسياسي للمنطقة والأهداف المعلنة لغايات هذا الكيان اللقيط!
ومرت هذه الأطروحات بمراحل وتحولات منذ أكثر من 56 عاماً، أي ما يفوق عمر الكيان الصهيوني العدو واللقيط! وجميعها تعيش ذلك الوهم وتتعاطى معه، وتحاول أن تضع له الأطر والمساحيق اللازمة لتزيينه وللترويج له، إما إحباطاً أو اتفاقاً أو خوفاً أو تردداً أو خضوعاً لضغوطات أميركية، ومرت تلك الأطروحات بسبعة تحولات مختلفة:
1- بدأت بالترويج لفكرة التعايش والقبول بالأمر الواقع الذي رعته وأشرفت عليه كل من بريطانيا وأميركا، حتى تمت بلورة ذلك بالقرار 242، ليكون بداية التأمين الحقيقي للكيان الصهيوني اللقيط!
2- ثم مرحلة أطروحات التعايش السلمي مع الكيان لتجنب مزيد من الحروب التي أدت وتؤدي إلى تردي أحوال الناس ومعيشتهم ودولهم، وهذه امتدت من الفترة 1968 حتى 1978 لما يزيد على عشر سنوات، ضمنها حرب 1973.
3- ثم بدأت ظاهرة التمهيد والتحوّل للتطبيع مع الكيان الصهيوني وأطروحة «الأرض مقابل السلام»، وقد كان الأميركيون والأوروبيون المروجين لها وتبناها أنور السادات، الذي زار الكيان الصهيوني ووقع معه اتفاقيات السلام ثم اتفاقية «كامب ديفيد» عامي 1978 و1979.
4- مرحلة توسيع دائرة اتفاقيات السلام والبدء في حديث بشأن التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني، وقد بدأ تداوله في الاجتماعات وأروقة القمم العربية، وقد أحدث ذلك انقساماً لفريقين، واحد يؤيد ذلك وآخر يعارضه، وفي هذه الأجواء ظهرت أنماط للتقارب والتطبيع مع الكيان الصهيوني، وهكذا أبرمت اتفاقية وادي عربة بين الأردن والكيان!
5- بالتزامن مع المرحلة السابقة بدأت تخرج للعلن مطالبات لتدعيم فكرة إقامة الدولة الفلسطينية، وظهرت بدايات واضحة لمبادرات عربية في هذا الاتجاه حتى يرفع الحرج عن الدول التي تسعى لإبرام معاهدات، وتمخض ذلك -بعد مفاوضات ومحاولات- لتصفية الوجود الفلسطيني لتبرير إبرام اتفاق أوسلو 1993، والذي اعتبره البعض نصراً وإنجازاً بإقامة سلطة فلسطينية تمهد الطريق لدولة فلسطينية! وفي أجوائه أبرمت اتفاقية وادي عربة!
6- استخدمت في هذه المرحلة اتفاقية أوسلو مع ظهور سلطة فلسطينية ومنحها إدارة محلية على الضفة الغربية وغزة، مبرراً لتوسيع توجهات التطبيع وتوقيع الاتفاقيات، ما أوجد تحولاً عربياً لافتاً يسعى إلى التطبيع ويؤطر ذلك بمبادرة عربية تبنتها الدول العربية وركيزتها دائماً إقامة دولة فلسطينية على حدود يونيو 1967! وتوالت بعدها العديد من اتفاقيات السلام والتطبيع مع الكيان الصهيوني من قبل بعض الدول العربية، وتكرر مسلك التطبيع!
7- بوادر لتوسيع وترسيخ التطبيع بشكل أوسع، في مقايضة على وهم إقامة دولة فلسطينية! وهو ما ينافيه الواقع التوسعي للكيان الصهيوني في الضفة وبناء المستوطنات وتكريس الحواجز والبوابات لدولة العزل العنصري! بل تزامن معه تحرك لتصفية القضية الفلسطينية ونقل السفارات للقدس وتهجير الفلسطينيين تمهيداً لما سمي بـ «صفقة القرن».
وفي ظل هذه الأجواء حدث «طوفان الأقصى»، ففرض تغييراً حقيقياً على مسارات التطبيع والاتفاقيات، وغير المزاج العربي والإسلامي الشعبي والرسمي بسبب حجم الجرائم المرتكبة في غزة ونوعيتها المرعبة، مما عطّل توجهات التطبيع وعرقلها!
وللأسف، لا يزال هناك من يحاول الركض وراء وهم التعايش السلمي مع الكيان، ويروّج له استجابة لضغوطات أميركية وأوروبية، واستسلاماً لواقع يهيمن عليه الكيان في المنطقة!
لكن المطمئن أن تياراً فلسطينياً وعربياً وإسلامياً مناوئاً لوهم التعايش السلمي ظهر وصار ملحاً، بعد تكشف نوايا الاحتلال وإدراك الدول العربية أن الكيان الصهيوني تنكّر وتحلّل وانقلب على جميع الاتفاقيات التي أبرمت معه، ولا طائل من الاندفاع وراء وهم لا يمت للواقع بصلة وفاقد للمعطيات الغامضة التي يكررها البعض!