قفز الذهب متجاوزاً مستوى 4400 دولار للأوقية للمرة الأولى في تاريخه، اليوم، مستفيداً من التوقعات المتزايدة بتخفيضات أخرى في أسعار الفائدة الأميركية والطلب القوي على أصول الملاذ الآمن، وانضمت الفضة أيضاً إلى الارتفاع لتسجل أعلى مستوى لها على الإطلاق.
وارتفع الذهب في المعاملات الفورية 1.4 بالمئة عند 4397.16 دولاراً للأوقية (الأونصة) بعد أن كسر حاجز 4400 دولار ليسجل مستوى قياسياً مرتفعاً بلغ 4400.29 دولار في وقت سابق اليوم.
وبذلك يكون أحد أصول الملاذ الآمن التقليدية، ارتفع 67 بالمئة لهذا العام، وحطم عدداً من الأرقام القياسية واخترق مستويات 3000 دولار و4000 دولار للأوقية للمرة الأولى، ويستعد لتحقيق أكبر مكاسب سنوية له منذ عام 1979.
وارتفعت أسعار الذهب إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق في التعاملات الآسيوية، وذكرت وكالة بلومبرغ للأنباء أن سعر المعدن النفيس ارتفع بأكثر من 1.5 بالمئة ليتجاوز الرقم القياسي السابق البالغ 4381 دولاراً للأوقية، الذي سجله في أكتوبر الماضي.
ويراهن المتداولون على أن مجلس الاحتياط الفدرالي «البنك المركزي» الأميركي سيخفض أسعار الفائدة مرتين في عام 2026 بعد سلسلة من البيانات الاقتصادية التي صدرت الأسبوع الماضي، في حين دعا الرئيس الأميركي دونالد ترامب أيضاً إلى سياسة نقدية أكثر مرونة. وتعد أسعار الفائدة المنخفضة عادة عاملاً مساعداً للمعادن النفيسة.
كما عززت التوترات الجيوسياسية، التي تصاعدت في الأسابيع الأخيرة جاذبية الذهب والفضة كملاذ آمن. وشددت الولايات المتحدة الحصار النفطي المفروض على فنزويلا، مما أدى إلى زيادة الضغط على حكومة الرئيس نيكولاس مادورو، بينما هاجمت أوكرانيا ناقلة نفط تابعة للأسطول الروسي غير الرسمي في البحر الأبيض المتوسط للمرة الأولى.
ويتجه المعدنان النفيسان نحو تحقيق أعلى مكاسب سنوية لهما منذ عام 1979، وقد ارتفع سعر الذهب بنحو الثلثين، مدعوماً بزيادة مشتريات البنوك المركزية وتدفقات الأموال إلى صناديق الاستثمار القابلة للتداول المدعومة بالسبائك.
وساهمت تحركات ترامب الجذرية لإعادة تشكيل التجارة العالمية، فضلاً عن تهديداته لاستقلالية البنك المركزي الأميركي، في زيادة حدة الارتفاع الكبير الذي شهده الذهب في وقت سابق من هذا العام.
وقالت ديلين وو، المحللة في مجموعة بيبرستون غروب إن الارتفاع الحالي (في أسعار الذهب) «مدفوع، إلى حد كبير، بالتمركز المبكر حول توقعات خفض أسعار الفائدة من الاحتياطي الفدرالي، الذي تعزز بانخفاض السيولة في نهاية العام».
ويتوقع قطاع المعادن النفيسة في ألمانيا أن تظل أسعار الذهب مستقرة أو تسجل ارتفاعاً خلال عام 2026، بعد موجة الصعود التي شهدها المعدن هذا العام.
وقال يورك تيتسلاف، رئيس الاتحاد الألماني لقطاع المعادن النفيسة، إن تراجع توقعات الفائدة واستمرار حالة عدم اليقين الجيوسياسي إلى جانب الطلب القوي من البنوك المركزية تشكل عوامل داعمة للأسعار، رغم احتمال حدوث تقلبات مؤقتة.
وأضاف تيتسلاف أن الطلب من البنوك المركزية سيبقى قوياً، مشيراً إلى أن التوترات الجيوسياسية أو التجارية، مثل السياسات الجمركية، قد تؤدي إلى تحركات كبيرة في الأسعار، إذا تصاعدت تلك التوترات.
وفي توقعات مماثلة، أشار مجلس الذهب العالمي إلى أن تباطؤ النمو الاقتصادي أو حدوث ركود قد ينعكس في صورة مكاسب معتدلة إلى قوية للذهب، في حين أن نجاح السياسات الاقتصادية التي بدأت في عهد إدارة الرئيس ترامب قد يعزز النمو ويقلل المخاطر الجيوسياسية، مما قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة وقوة الدولار الأميركي، بالتالي الضغط على أسعار الذهب نحو الانخفاض.
وارتفعت الفضة في المعاملات الفورية 3.3 بالمئة إلى أعلى مستوى عند 69.44 دولاراً. وارتفعت العقود الأميركية الآجلة للذهب تسليم فبراير 0.98 بالمئة إلى 4430.30 دولاراً للأوقية.
وزادت الفضة 138 بالمئة منذ بداية العام حتى الآن، متفوقة على الذهب بشكل كبير.
وقال مات سيمبسون، كبير المحللين لدى ستون إكس: «نظراً إلى أن شهر ديسمبر عادة ما يحقق عوائد إيجابية للذهب والفضة، فإن العوامل الموسمية في مصلحتهما».
وتلقى الذهب، الذي يُنظر إليه تقليدياً أنه أحد أصول الملاذ الآمن، دعما من التوترات الجيوسياسية والتجارية المتزايدة، وشراء البنوك المركزية القوي وتوقعات خفض أسعار الفائدة العام المقبل. وساهم انخفاض الدولار في توفير المزيد من الدعم للذهب، إذ يؤدي انخفاضه إلى جعل المعدن النفيس أرخص بالنسبة لحائزي العملات الأخرى.
كما تميل الأصول التي لا تدر عائداً مثل الذهب إلى الصعود في بيئة أسعار الفائدة المنخفضة. وبالنسبة للمعادن النفيسة الأخرى، قفز البلاتين 4.3 بالمئة إلى 2057.15 دولاراً للأوقية وهو أعلى مستوى له منذ أكثر من 17 عاماً. وزاد البلاديوم 4.2 بالمئة إلى 1786.45 دولاراً للأوقية وهو أعلى مستوياته منذ نحو ثلاثة أعوام.
وقال جوليوس بنديكاس، رئيس شؤون تخصيص الأصول الاقتصادية والديناميكية في أوروبا لدى شركة «ميرسر»، إن أسعار الذهب قد تشهد ارتفاعاً كبيراً خلال الفترة المقبلة، مرجّحاً أن يكون مستوى 5 آلاف دولار للأونصة أكثر احتمالاً من العودة إلى 3 آلاف دولار، في ظل استمرار الطلب القوي من البنوك المركزية عالمياً.
وفي مقابلة خاصة مع «العربية Business» أوضح بنديكاس أن الذهب والفضة لا يزالان يشكلان عنصراً مهماً في المحافظ الاستثمارية كجزء من سلة السلع، مؤكداً أهمية الحفاظ على توزيع متوازن بين السلع والأسهم، وعدم المبالغة في الرهانات الأحادية.
وحول آفاق الاقتصاد الأميركي، توقع أن يحقق أداءً جيداً في عام 2026، مدعوماً بعدة عوامل إيجابية، أبرزها التيسير المالي الناتج عن السياسات الحكومية، واستمرار الإنفاق الرأسمالي القوي على تقنيات الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى متانة أوضاع المستهلك الأميركي، حيث تتمتع الميزانيات العمومية بالقوة، وأسعار الأصول بمستويات مرتفعة تعزز تأثيرات الثروة.
وأضاف أن هذه العوامل مجتمعة تجعل الاقتصاد الأميركي أكثر قدرة على تحمّل أي تشديد في الظروف التجارية، مشيراً إلى أن ذلك يدعم استمرار الأداء المقبول للأسهم، في وقت تبقى فيه «ميرسر» حذرة بشأن عدد تخفيضات أسعار الفائدة التي قد يقدم عليها «الاحتياطي الفدرالي».
وبشأن السياسة النقدية، رجّح بنديكاس أن يكون عدد تخفيضات أسعار الفائدة في 2026 أقل مما تتوقعه الأسواق حالياً، مشيراً إلى أن السيناريو الأقرب هو خفضان فقط، في ظل بقاء الاقتصاد في وضع جيد وعدم وجود حاجة ملحّة لتدخل سريع من البنك المركزي.
وعن الجدل الدائر حول تقييمات أسهم الذكاء الاصطناعي، أوضح بنديكاس أن هناك بالفعل بعض مظاهر التفاؤل المفرط في قطاعات معينة، إلا أن الوضع الحالي يختلف جوهرياً عن فقاعة «الدوت كوم»، نظراً لأن الشركات القائدة اليوم تحقق أرباحاً قوية وتتمتع بسيولة مرتفعة وميزانيات عمومية متينة.
وفيما يتعلق بتصميم محفظة استثمارية لعام 2026، أوصى بنديكاس بالالتزام بمؤشر عالمي واسع مثل MSCI ACWI IMI على المدى الطويل، مع ميل طفيف نحو الأسهم اليابانية، نظراً لتفاؤله بأداء الاقتصاد الياباني وأرباح شركاته وقوة الين، كما شدد على أهمية الإبقاء على الذهب والسلع ضمن التوزيع الاستراتيجي المعتاد.
وأشار إلى أن الفرص الأكثر جاذبية حالياً تكمن في الدخل الثابت والأفكار الاستثمارية المتخصصة، لافتاً إلى جاذبية سندات الحكومة البريطانية، وديون الأسواق الناشئة، إضافة إلى الديون عالية العائد في آسيا، مقابل تقليص التعرض للديون ذات الدرجة الاستثمارية.
وأكد أن المرحلة المقبلة تتطلب نهجاً استثمارياً متوازناً وقريباً من الحياد بين فئات الأصول الكبرى، مع التركيز على اقتناص الفرص النوعية «تحت السطح»، بدل الرهان على أن يكون عام 2026 عاماً مخصصاً لفئة أصول واحدة بعينها.