خلقت لغتنا العربية من رحم فطرة الإبداع، ووُلدت قبل أن تُدوَّن، وتشكَّلت بعد ذلك على ألسنة الشعراء والحكماء والعلماء، حتى جاء يوم الثامن عشر من ديسمبر 1973، فدخلت رسمياً قاعة الأمم المتحدة حين أقرت اللغة العربية كلغةٍ رسمية من بين لغات العالم، شاهدةً على تاريخٍ طويل من الإسهام الحضاري والثقافي والعلمي. لكن كانت اللغة العربية، قبل هذا القرار بقرون، قد جلست على عرش المعرفة، تُعلِّم وتؤثِّر، وتفتح للإنسان أبواب العلم والفلسفة والطب والرياضيات، بل تُعيد تعريف الجمال عبر البيان والبلاغة.
ففي هذا اليوم، نحن نفتح نافذةً على روح الأصالة والعراقة، لنُنصت لصوتٍ قديمٍ جديد نابض يتنفس الحياة، ويسري في شريان كل عربي، اسمه العربية. ذلك الصوت الذي عبر الصحراء والبحار والوديان، وشكَّل القصيدة والرواية والكتاب، وحمل الإنسان العربي من زمن الحكايات الشفوية إلى آفاق الفكر الإنساني الممتد المكتوب.
إن اليوم العالمي للغة العربية هو تاريخ في رزنامة الأمم المتحدة، وهو لحظة اعترافٍ بأن للكلمات ذاكرة، وللحروف وطناً، وللغة العربية منشأ.
فاللغة العربية ليست مجرَّد وسيلة ولغة تُواصل، بل هي كائنٌ حيّ يتنفس التشبيه والاستعارة والمجاز، ويزدهر بالمعنى، ويثمر في بستان الإبداع. تتميَّز بمرونة تجعلها قادرة على احتضان الحداثة، وبأصالة تحفظها من التبخُّر في زمنٍ تتسارع اللغات، وتتنافس في عصر المتغيِّرات السريعة، لتبقى العربية امتحان الانتماء، وسؤال الهوية وأصل العراقة والعروبة. حين نكتب بها بصدق، ونتعلَّمها بحُب، ونستخدمها في العِلم والتقنية والفكر، فإننا لا نحمي لغتنا فقط، لكن نُنقذ ذاكرتنا من النسيان. فهي لغة القرآن الكريم، فصارت قدسيتها جزءاً من وجدان الملايين، ولغة الشعر، فغدت مرآة العاطفة الإنسانية بكل ما فيها من شوقٍ وألمٍ وحنين. كل حرفٍ فيها كأنه حرف موسيقي خفي يتراقص على مسارح الإبداع، وكل كلمة بمنزلة ظلٍ لتجربةٍ إنسانيةٍ عميقة. هي لغة التعبير والتأثير والإبداع والتطوير.
إن الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية ليس مناسبةً رمزية فحسب، بل دعوة مفتوحة لإعادة الاعتبار لهذه اللغة العريقة، وتعزيز حضورها في التعليم والإعلام والتقنية، وتشجيع الإبداع بها، قراءةً، وكتابةً، وفكراً. فاللغة التي صنعت حضارة قادرة، متى ما آمن بها أهلها، أن تواصل دورها في صناعة المستقبل.
العربية ليست لغة الأمس فقط، بل لغة اليوم والغد، ولغة فخرٍ واعتزاز، ويجب علينا كمربين وتربويين وعرب المحافظة على أصالتها، وإعادة الإنصات إليها، والتشديد على أبنائنا بالتحدُّث بها، وفهم معانيها وما بين سطورها. كما يجب أن نعزز ثقافة الخط العربي، وتعليم الأجيال الصغيرة أصوله ومدارسه وأدواته وجمالياته، فاللغة العربية إرث الماضي، ونبض الحاضر.
*مترجمة وكاتبة وفنانة تشكيلية