يبدو العالم وكأنه يكتب فصلاً جديداً في تاريخ القوة، فصل تتقاطع فيه السياسة مع الاقتصاد والتكنولوجيا مع النفوذ، فيما الدول العربية، والكويت على وجه الخصوص، مطالبة بتحويل هذه التحولات إلى أدوات استراتيجية تحمي مصالحها وتؤكد دورها في عالم سريع التغير.
لم يعد بالإمكان قراءة الأحداث العالمية الكبرى كوقائع منفصلة، كونها شبكة مترابطة من الصراعات والتنافسات العسكرية والاقتصادية والسياسية، يتضح أثرها من خلال خمسة مسارات متزامنة: توتر مضيق تايوان، التصعيد الأميركي في فنزويلا، التوازن الهندي–الروسي، ضغوط «السلام بالقوة» على الشرق الأوسط، وضبابية الصراع العسكري الروسي–الأوروبي.
في هذا المشهد، تتفاعل إدارة ترامب بين النزعة التجارية الواضحة لتحقيق مكاسب فورية، وبين رؤية «الدولة العميقة» للبيت الابيض التي تسعى للمحافظة على استمرار النفوذ الأميركي الاستراتيجي طويل الأمد.
في شرق آسيا، يؤكد الصراع حول مضيق تايوان أن السيطرة البحرية لم تعد مجرد مسار عبور، بل أداة لتحديد موازين القوى الاقتصادية العالمية. فالصين تسعى لتثبيت نفوذها في صناعة الرقائق والسيطرة على أسواق التكنولوجيا، بينما تكثف تايبيه استعداداتها العسكرية بدعم أميركي، ما يخلق حالة توتر مستمرة تؤثر على أسواق الطاقة والتجارة العالمية.
أما في أميركا اللاتينية، فالتصعيد الأميركي ضد فنزويلا يواجه دعماً روسياً وصينياً لكراكاس، ما يعيد تشكيل التوازنات ويزيد من تقلب أسواق النفط، مؤثرًا مباشرة على سوق الطاقة العالمي.
وفي جنوب آسيا، تُظهر زيارة بوتين إلى نيودلهي أن الهند تمسك بخيوط التوازن بين موسكو وواشنطن، مستفيدة من سوقها الشرائي المتنامي وموقعها الاستراتيجي في شبكات الطاقة والأسواق التكنولوجية، ما يجعلها لاعباً مؤثراً في اقتصادات العالم.
أما في الشرق الأوسط، فتظل محاولات فرض «السلام بالقوة» محل شكوك، إذ إن أي تسوية لا تعالج جذور القضية الفلسطينية ستظل هشة، قابلة للانفجار عند أول تغير في موازين القوى. الاستقرار السياسي المبني على الضغط وحده لا يضمن التدفق الحر للاستثمارات، ويؤثر مباشرة على الثقة في أسواق المنطقة، ما يجعل الأمن والاستثمار تحدياً مزدوجاً لدول الشرق الأوسط والخليج.
تتقاطع هذه المسارات لتضع الخليج والكويت أمام تحديات مركبة: الأسواق النفطية العالمية لم تعد مستقرة، الأسعار تتقلب بفعل توترات الطاقة الإقليمية، وتقلب الذهب يعكس هواجس المستثمرين العالمية، فيما سلاسل التوريد تواجه ضغوطاً متصاعدة، الأمر الذي يفرض إعادة النظر في سياساتنا المالية والتنموية وربطها بالتحولات الدولية، لضمان استدامة الإيرادات، وحماية الأسواق من الصدمات، وتعزيز مرونة الاقتصاد أمام أي اضطراب عالمي.
على المستوى الداخلي، تواجه الكويت مهمة معقدة في ربط استراتيجياتها التنموية بالمتغيرات العالمية، فإدارة مصادر الطاقة وتنويع الاقتصاد لم يعد خياراً، بل ضرورة لضمان الاستقرار المالي والسيادة الاقتصادية. برامج التحوّل الوطني، من تطوير المدن الذكية إلى الطاقة المتجددة والاستثمار في الصناعات المعرفية، أصبحت أدوات حماية مستقبلية، تعزز القدرة على التأثير في أسواق الطاقة العالمية وتقليل الاعتماد على النفط التقليدي.
وفي ظل المنافسة الإقليمية والدولية المتصاعدة، يظل السؤال الأساسي: كيف تستطيع الكويت استثمار نفوذها الاقتصادي لتحويل هذه التحولات إلى قوة استراتيجية توازن بين الاستقرار الداخلي والتأثير الخارجي؟
* كاتب ومستشار قانوني