يحلّ الشتاء فجأة أو هكذا يبدو، تسقط درجات الحرارة عشراً أو أكثر بين ليلة وفجر. يصمت صوت المكيفات التي هي أعلى صوتاً في دولنا الخليجية والأكثر رحمة في صيف يطول ويطول حتى يصبح أطول فصولنا كلها بل ربما فصلنا الوحيد. 

تسقط بضع زخات مطر ومعها ريح خفيفة تتحول سريعاً إلى رياح وأمطار أكثر غزارة، لكنها لا تشبه بالطبع أياً مما تعيشه شعوب الأرض الأخرى. نجري إلى بيوتنا باكراً، نلاحظ أن الشمس تجري سريعاً إلى مسكنها تاركة إيانا في عتمة ليلة مبكرة. نوصد النوافذ، بل نحكم إغلاقها، نراكم البطاطين أو نخرجها من مخزنها الذي تسكنه أطول فترة، فنحن لا نعرف إلا قسوة فصلين بدلاً عن فرحة الفصول الأربعة. صيف حار بقسوة وشتاء منعش ربما بعد طول القيظ، إلا أنه لا يطول ولا استدامة له، لكنه أحياناً يخترق الجسد لشدة الرطوبة. يتغير الكون حتى في فصوله هكذا نصبر أنفسنا بشتاء قصير فيما كان فصلاً مكتملاً نستعد له كما تفعل شعوب الأرض. تتجه العائلات إلى سوق المنامة للبحث عن الجديد من ملابس الشتاء وخصوصاً المعاطف الصوفية، أما المقتدرون فينتظرون التبضع أو ما يحضره البعض من هدايا من عواصم الأناقة بيروت ولندن وغيرهما من العواصم الأوروبية. هذا طبعا بالنسبة للمقتدرين من الخليجيين، أما الأغلبية من الطبقة المتوسطة فما تحت، التي أعطيت لها تسميات عدة مؤخراً للتخفيف من حجم الصدمة فيستخدمون كلمات «تلطيفية» فبدلاً من وصف فقير ومحتاج صار تعريفهم «ذوو الدخل المحدود». أما الطبقة المتوسطة فقد دفنت ولم يُسمّ عليها أحد وتحولت إلى مادة بحثية كالديناصورات ربما!

يتذمر الكثيرون من برد الشتاء البسيط رغم أنهم كانوا في انتظاره كانتظار غودو! يبحثون عن معطف أثقل، ويغلون الشاي السنجين أو الكرك ليعيد للروح بعض سكينة الدفء. ويستمرون في الشكوى فيما الشتاء هناك يعصف بهم فتطير الخيام مع أول نفس ريح، كأنها أوراق يابسة لا وزن لها. وتنهمر الأمطار وتستبيح المساحات الضيقة التي احتمى بها من نجوا من قصف دمر منازلهم ومساجدهم وكنائسهم ومدارسهم فلم يبق حجر فوق حجر. تتحول الخيمة إلى مستنقع، والبطانية إلى قطعة قماش مبللة أو ربما قطعة من الثلج، والطفل إلى جسدٍ يرتجف لا يعرف لماذا أصبح الشتاء جزء من الحرب عليه وعلى عائلته وكل أهله!

Ad

هنا، نحن نعدّ المطر نعمةً رومانسية، وهناك، يُعدّ حكماً بالإعدام لمن لم يمت بغيره.تُقفل المعابر.

لا حبة رز، ولا حبة فول، ولا حبة عدس، ولا حبة دواء.

حتى الحليب يصبح حلماً، والدفء ترفاً، والبقاء مسألة وقت لا أكثر.

فيموت الرضيع من شدة البرد، لا لأن الشتاء قاسٍ، بل لأن العالم أقسى عندما وقف يتفرج على حرب إبادتهم وتطهيرهم العرقي. يموت الفلسطيني إن لم يكن برصاصة قناص متعمدة في رأس طفل كما شهد كثير من أطباء العالم، أو قذيفة تطارد الأرواح الحرة، أو صواريخ «متطورة جداً» مثل كل أسلحتهم إلا أنها تصطاد الأبرياء أو تبتر أطرافهم على وقع ضحك الجنود واحتفالاتهم بانتصاراتهم المبهرة في مطاردة الأجساد التي هلكت من قلة الرحمة وطول الظلم والحصار وخاصة من الأقربين!

وفي الجهة الأخرى من الصورة، يحتفل الكثيرون، وربما هذا من حقهم أيضا، فهناك مولود جديد قادم لهذه الحياة فتكثر الملابس بألوانها الزاهية، وتعمر الموائد بما لذ وطاب وتلتقط الصور والضحكات... لا ذنب لهم ولنا عندما يحتفل بعضنا بالحياة، ولكن هناك تقتل الحياة كل يوم بصمت وبرود وقسوة أكبر من قسوة طقس الشتاء. 

الذنب في الاعتياد، لا في البرد.

في أن نشتكي قسوته ونحن محاطون بالدفء، وأن نمرّ على وجوه أطفال غزة المرتجفة مرور العابر على خبرٍ يومي.

هناك، لم يعد الشتاء فصلاً عابراً، بل امتحاناً قاسياً لنا. عندما تتغطى ببطانيتك وأنت جالس في منزلك الدافئ تتفرج على مسلسلك  المفضل فكر بهم.

كتب محمود درويش 

وأنت تعد فطورك، فكر بغيرك

(لا تنسَ قوت الحمام)

وأنت تخوض حروبك، فكّر بغيرك

(لا تنسَ من يطلبون السلام)

وأنت تعود إلى البيت، بيتك، فكّر بغيرك

(لا تنسَ شعب الخيام)

وأنت تنام وتحسب الكواكب، فكّر بغيرك

(ثمّة من لم يجد حيّزاً للنوم).

* يُنَشر بالتزامن مع الشروق المصرية