في إحدى الندوات العلمية، حيث تتجاور الأفكار كما تتجاور المقاعد، وجدتني متحدثاً، وعلى يميني طاولة صغيرة مستديرة، فوقها زجاجتان كبيرتان، طويلتا العنق، تُشبهان في امتدادهما عنق العنقاء. كانتا ممتلئتين بسائل رقراق شفاف، ماءٍ صافٍ يبعث في النَّفس وعداً بالارتواء. غير أن المشهد، على بساطته، كان يخفي مفارقة عميقة. الماء حاضر، قريب، يكاد يُلمس. لكن لا أكواب، لا كؤوس، لا وسيلة بسيطة لتحويل الامتلاء إلى شرب. نظرتُ إلى زميلتي في الندوة، د. نورة السهلاوي من دولة قطر، وقُلت مبتسماً: هذا هو السهل الممتنع. عبارة خرجت عفوية، لكنها كانت توصيفاً دقيقاً لمشهدٍ يتكرَّر في حياتنا أكثر مما نعتقد.
السهل الممتنع ليس تعقيداً، بل هو بساطة بلا أداة. هو فكرة واضحة، لكنها لا تجد طريقها إلى التطبيق. هو علمٌ متاح، لكنه يُقدَّم بلغةٍ تصدّ الناس عنه. هو حقٌّ قائم، لكنه يُحاط بإجراءات تجعله بعيد المنال. كم من معرفةٍ بقيت حبيسة الكُتب؟ وكم من حقيقةٍ ضاعت لأن مَنْ حملها لم يُحسن تقديمها؟
ليست المشكلة في عُمق الفكرة، بل في طريقة إيصالها. فالماء، مهما كان نقياً، لا يُغني عن الكأس. في التعليم، نمتلك المناهج ولا نمتلك الأسلوب. وفي الإدارة، نملك الأنظمة ولا نملك المرونة. وفي الخطاب العام، نملك المعاني، لكننا نُفرغها في أوعيةٍ لا تُناسب الناس. علَّمتني هاتان الزجاجتان درساً صامتاً: أن الامتلاء وحده لا يكفي، وأن الصفاء لا يُشرب إن غابت الوسيلة، وأن أعظم الأفكار قد تموت عطشاً، لا لأنها صعبة، بل لأنها قُدِّمت بلا كأس. ذلك هو السهل الممتنع... حاضرٌ أمامنا، لكننا نحتاج فقط إلى أن نتعلَّم كيف نمد أيدينا إليه.
دمتم بود