جلسنا في أحد المقاهي، ودار حديث عابر عن الطقس، قبل أن يُفاجئني أحد الأصدقاء بقوله إن الأرض مسطَّحة، وليست كروية. 

في البداية ظننتها مزحة، لكن الجدية في حديثه وسيل المقاطع التي عرضها على هاتفه أوضحا أن الأمر لم يعد رأياً شخصياً، بل أصبح «ترند» مكتملاً له أنصاره. في زمن تتسابق «الترندات» إلى عقول المستخدمين، خرجت علينا نظرية قديمة بثوبٍ رقمي لامع تقول إن الأرض مسطَّحة، وقد لاقت هذه الفكرة رواجاً واسعاً مع الانفتاح الكبير على وسائل التواصل الاجتماعي. 

نظرية الأرض المسطَّحة، التي ظن كثيرون أنها انتهت مع رحلات الفضاء وصور الأقمار الصناعية وGPS في هواتفنا، عادت بقوة عبر منصات التواصل الاجتماعي. مقاطع قصيرة، عناوين صادمة، وثقة مفرطة لدى بعض صانعي المحتوى، تكفي لإقناع آلاف المتابعين بأن ما تعلموه في المدرسة «كذبة كبرى»، وأن الحقيقة كانت دائماً على بُعد زر إعجاب ومشاركة. 

Ad

مروجو هذه الفكرة لا يكتفون بالتشكيك في العلم، بل يوسِّعون الدائرة، لتشمل وكالات الفضاء، والجامعات، والطيارين، وحتى البحَّارة، باعتبارهم جزءاً من مؤامرة عالمية لإخفاء شكل الأرض الحقيقي. 

والسؤال المنطقي هنا: إذا كان الجميع متآمراً، فمَنْ الذي بقي ليقول الحقيقة؟ 

الإجابة جاهزة بالطبع، مؤثر على «تيك توك» يحمل خريطة مرسومة ببرنامج بدائي، ويتحدَّث بنبرةٍ واثقة لا تحتمل الشك. التهكُّم لا يأتي من غرابة الفكرة فحسب، بل من الطريقة التي تُقدَّم بها. يُستبدل الدليل العلمي بتجربة منزلية، وتُلغى قوانين الفيزياء، لأن العين لا ترى الانحناء، وكأن العين البشرية كانت يوماً أداة دقيقة لقياس نصف قطر كوكب. أما صور الأرض من الفضاء، فهي مفبركة، رغم أنها تأتي من عشرات الدول والبعثات المستقلة، وفي أزمنة سياسية متصارعة بالكاد تتفق على شيء. 

الأرض سواء كانت كروية أو في خيال البعض مسطَّحة لا تتغيَّر بتغريدة أو مقطع فيديو، الذي يتغيَّر هو قُدرتنا على التمييز بين النقد العلمي الحقيقي، وبين محتوى ساخر من نفسه، لكنه يقدَّم على أنه حقيقة مخفية. 

لعل انتشار هذه الفكرة في الأجيال الناشئة يدق جرس الإنذار حين يُصبح الجهل جذاباً، والعلم مملاً، فالمشكلة ليست في شكل الكوكب، بل في الطريقة التي ننظر بها إليه.