​هذا جيلٌ يعرف كثيراً عن العالم... وقليلاً عن نفسه، يتنقّل بإصبعه بين قاراتٍ لا يعيش فيها، ويحفظ سيرَ نجومٍ لا يعرفونه، لكنه قد يتلعثم حين يُسأل عن أوّل حكايةٍ في عائلته، أو عن اسم «المنطقة» الأولى التي خرجت منها أسرته. شاشةٌ فتحت له الكوكب... لكنها في الطريق أغلقت عليه باب الجذور.

يخبرنا علم نفس النمو أن من أهم مهام المراهقة بناء هوية واضحة، أن يكوّن الشاب قصةً متماسكة عن نفسه: من أنا؟ بماذا أؤمن؟ أين أنتمي؟ مراجعة حديثة عن تطوّر الهوية في المراهقة (Branje، 2022) تُظهر أن من يملك هوية أوضح – سرداً متماسكاً لحياته وقيمه – يكون أفضل حالاً في مجالات التحصيل والعلاقات والصحة النفسية، مقارنةً بمن يعيش في هويةٍ مبعثرة.

​وتدعم ذلك أبحاث الهوية السردية، فقد وجدت دراسة على شبابٍ صغار (Vanden Poel et al.، 2019) أن من يستطيع أن يروي قصةً أكثر ترابطاً عن حياته يتمتّع بمستويات أعلى من التوافق النفسي ودرجات أقل من أعراض القلق والاكتئاب. كأن القدرة على حكي الحكاية بوضوح تعني أن الداخل ليس مفككاً تماماً.

Ad

أما الهوية الثقافية والعرقية فليست «تفصيلاً تراثياً»، بل عامل حماية حقيقي. تحليل ودراسات مراجَعة (Smith & Silva، 2011، Rivas-Drake et al.، 2014) أظهرت أن الشعور الإيجابي بالانتماء الثقافي يرتبط عادةً بتقدير ذاتٍ أعلى ومستويات أقل من الاكتئاب لدى اليافعين، وأن الشباب الذين يشعرون بفخرٍ ووضوحٍ تجاه هويتهم أقلّ عُرضةً للضياع الداخلي.

لكن ماذا لو تربّى الجيل في بيوتٍ مشغولةٍ دائماً، ومدارسَ تُدرّس التاريخ كصفحاتٍ للحفظ لا كحكايةٍ تُعاش، وإعلامٍ لا يرى في الماضي إلا مادةً للجدل أو الاستهلاك؟ سيجد المراهق نفسه محاطاً بسِيَر الآخرين دون أن يُمنح فرصةً ليفهم سيرته هو، يعرف تاريخ الفرق العالمية... ولا يعرف تاريخ حارته، يحفظ شعارات العلامات التجارية... ولا يحفظ دعاء جدّته قبل النوم.

​أبحاثٌ حديثة عن الارتباط والانتماء (Pastor et al.، 2025، Rose et al.، 2024) تؤكد أن شعور اليافع بالانتماء لأسرته ومدرسته وأقرانه عامل حمايةٍ قوي ضد الاكتئاب والسلوكيات الخطرة، وأن من يشعر بأنه «من أهل المكان» يكون أكثر تماسكاً في داخله وأكثر قدرةً على عبور الأزمات.

​وربما يبدأ إنبات الجذور من أشياء تبدو عاديّة: مائدةٌ يُذكَر عليها اسم الجدّ لأول مرة، درس تاريخٍ يربط بين خريطة الوطن ووجوه الناس، نزهةٌ قصيرة إلى الحيّ القديم، أسئلة بسيطة نوجّهها لأبنائنا عن أوّل بيت، وأوّل حكاية، وأوّل قيمةٍ تعلّموها من الكبار. في مثل هذه اللحظات الصغيرة يتعلّم الشاب أن حياته حلقةٌ في سلسلة... لا صفحةٌ وحيدة معزولة.

​جيلٌ بلا جذور ليس قدراً مكتوباً، بل نتيجةُ تربيةٍ قصيرة النظر. وإن أردنا شباباً ينفتحون على العالم دون أن يضيعوا فيه، فعلينا أن نردّ إليهم أولاً هديةً قديمة: أن يعرف كلٌّ منهم من أين جاء... ليُحسن اختيار الطريق الذي سيذهب إليه.