ثمة لحظة خادعة نعتقد فيها أن المشاركة تُقرِّبنا من الآخرين، قبل أن نكتشف أننا سلَّمنا مفاتيح بيوتنا وقلوبنا للعامة من دون وعي. متى اختفى سقف البيت حين صار كل ما بداخله ملكاً للشارع الرقمي؟ وكيف تحوَّلت حياتنا الخاصة إلى عرضٍ عام، وصِرنا ممثلين في مسرحيات نروي تفاصيلها للغُرباء بحثاً عن تفاعلٍ عابر؟
ولأن كُل شيءٍ قابل لإعادة التشغيل، حتى نحن، ففي كُل أسبوع نأخذ لحظة تأمل، نُراجع فيها عادةً، فكرةً، أو علاقةً، ونسأل أنفسنا: هل نستمر بها؟ أم نضغط زر «ريستارت»، ونبدأ من جديد؟
وفي تأملنا هذا الأسبوع، تطل علينا فكرة تسلَّلت بهدوء، حتى صارت واقعاً مفروضاً: مفهوم «الخصوصية»، الذي نُعيد تشغيله اليوم. في عصرٍ انقلبت المعادلة، فصِرنا نعيش لنُعلن عن الحياة، بدل أن نُعلن عن حياتنا ونحن نعيشها. لقد تحوَّلت التفاصيل الصغيرة، من طقوس الصباح إلى حوارات العشاء، من مساحات حميمة إلى بثٍّ مباشر وقصصٍ مؤقتة. اخترق الفضاء الافتراضي قدسية البيوت بلا استئذان، فذابت الحدود بين العام والخاص، وباتت الجُدران الحقيقية عاجزة عن حمايتنا من أعين تتلصَّص بإرادتنا نحن.
لم يعد الأمر مجرَّد مشاركة عابرة، بل أصبح تفكيكاً منهجياً للحظة الإنسانية الخالصة. حين تتحوَّل الوجبة العائلية إلى جلسة تصوير، تختنق العفوية، وحين نُعد اللحظة للنشر قبل أن نسمح لأنفسنا بعيشها، نفقد صِدق المشاعر، ونستبدلها بالأداء. لا نعيش اللحظة، بل نُمثلها، ولا نشعر بها، بل نعدها للعرض. نُصبح أسرى سعادةٍ مؤجلة نبحث عنها في صورةٍ لاحقة، ونرهن حضورنا الحقيقي مقابل غيابٍ مصطنع في الواقع الافتراضي.
ومع هذا الاعتياد، نُعيد تشكيل وعي أبنائنا على نحوٍ مقلق؛ نعلمهم أن قيمة اللحظة تُقاس بمدى قابليتها للنشر، وأن الهوية تُصاغ في ورشة الصورة الرقمية، لا في معمل الروح البطيء. تُصبح الذات سِلعة، والعلاقات ديكوراً، والخصوصية خياراً قابلاً للتنازل. وعلى مستوى النسيج المجتمعي، يتشكَّل مجتمع من «الوحدة الجماعية»؛ ازدحام رقمي يُقابله فراغ إنساني، يذبل فيه الحوار العميق، ويُستبدل التعاطف الحقيقي بردود فعلٍ سريعة تحت المنشورات. والأخطر أننا نطبع انتهاك حدودنا الذاتية، حتى نفقد تدريجياً القدرة على التمييز بين ما يجب أن يُصان وما يُستباح.
لكن «ريستارت» هذه الفكرة ليس انسحاباً من العصر، بل هو انتصار للوعي على الآلية، واستعادة لسيادتنا على لحظاتنا وعلاقاتنا وسردياتنا الشخصية. هو بناء حصونٍ داخلية من الوعي، نُمارس فيها حقنا الأصيل في الوجود الخالص من دون أداء، وفي الامتلاك الهادئ من دون عرض، وفي الحُب الحميم من دون شهود. هو أن نُعيد للكاميرا وظيفتها الأولى؛ أداةً لحفظ الذاكرة، لا لإرضاء الجمهور، وأن نحرِّر اللحظة من كونها مادةً استهلاكية، لتعود تجربةً وجدانية تُعاش بكامل صِدقها.
فلنضغط هذا الأسبوع زر «ريستارت»، ليس لنعود إلى الوراء، بل لنُعلن استقلال وجودنا، ونستعيد قدسية المساحات غير المرئية، وكرامة الأسرار المحفوظة، وجمال اللحظة التي تخصنا وحدنا. لنبدأ من جديد بوعيٍ أن الهوية الحقة تُنسج في مساحاتنا الداخلية قبل أن تُعرض في واجهاتنا الخارجية.
فالحياة التي تستحق أن تُعاش هي تلك التي تحتفظ بأقدس تفاصيلها لقلوب المُحبين الصادقين، لا لعيون المتصفِّحين.
* إعلامية بحرينية