يعمد بعض الفنانين إلى استثمار المزج بين التناقضات خلال مفردات أعمالهم التشكيلية، رغبة في تقديم رؤية بصرية مغايرة ترسم الدهشة في نفوس المتلقين وتدفعهم للولوج إلى اللوحة للبحث عن خباياها.
ضمن هذا الإطار، نقرأ في جوهر هذه اللوحة، محاولة لتلمُّس مشاعر الغموض والدفء المتناقض فيها.. ترنيمة المطر والضوء الخافت تتجلّى أمامنا في لوحة زيتية تنبض بروح «الانطباعية الحديثة»، حيث يذوب الواقع في ضربات فرشاة ناعمة توحي الحلم أكثر من اليقظة.
فالمشهد عبارة عن زقاق أوروبي عتيق، وقد ارتدى حلّة الخريف القشيبة، ليقف شاهداً صامتاً في سكون ليلة ماطرة.
تبدو العناصر الجمالية الرمزية في اللوحة ثنائية البرودة والدفء، إذ يرسم الفنان ببراعة مفردات عمله مستفيدا من التناقضات، فيقفز المضمون على وتر التناقض اللوني بينما تسيطر على خلفية اللوحة وأرضيتها درجات اللونين الرمادي والأزرق الفولاذي، مما يبعث شعوراً ببرودة المطر ووحشة الشارع.
وفي المقابل، ينفجر الدفء من قلب اللوحة عبر أوراق الشجر البرتقالية المحترقة بنار الخريف التي تنثر الأضواء العنبرية المنبعثة من نوافذ المقهى والمصابيح المعلّقة، مما يخلق ملاذاً دافئاً للعين وسط صقيع المشهد.
وفي زاوية جمالية أخرى باللوحة، هناك أرضية من الزجاج السائل ذي الغموض المتلألئ، لعل أبرز ما يميّزه هو الأرضية المبللة التي تحولت إلى مرآة سائلة، فالانعكاسات الطولية للأضواء والظلال على الأسفلت المبلل تضفي ذلك «الغموض الماطر الرقراق» المطلوب، فهي ليست صورة طبق الأصل للواقع، بل خيالات متموّجة توحي أن الأرض تميد تحت أقدام المارة، عاكسةً عالماً موازياً مقلوباً.
إذ إن سكون الصمت، رغم وجود البشر له، ضجيج غامض.
الشخصيات الظاهرة تبدو غارقة في عوالمها الخاصة، تسير الهوينا أو تقف بانتظار مجهول. المظلات المفتوحة والمعاطف الثقيلة تشكّل حواجز عزلة، مما يعزز فكرة «الصمت في سكون الليل».
لا نسمع هنا ضجيج المدينة، بل فقط همس حبات المطر وهي ترتطم بالأرض وأوراق الشجر.
المباني الشاهقة بلونها البيج العتيق وتفاصيلها الكلاسيكية تحتضن المشهد كحارس قديم، بينما تتسلق الطبيعة متمثلة في الأشجار الحُمر على واجهاتها، في عناق أبدي بين جمود الحجر وحيادية الزمن المتغير.
إنها لوحة تثير الشجن، تأخذ المشاهد إلى لحظة زمنية معلّقة، حيث يمتزج الشعور بالوحدة المريحة، مع الرغبة في الدخول إلى ذلك المقهى الدافئ والهروب من برودة الحياة. إنها قصيدة بصرية عن العبور، والانتظار، والجمال الكامن في الأيام الماطرة.