لم تكن معضلة سورية يوماً في غياب الشعارات، بل في غياب النظام السياسي القادر على منع الاستبداد مهما تبدّلت الوجوه. فالتجربة السورية، كما غيرها في المنطقة، أثبتت أن الاكتفاء بالديمقراطية الشكلية قد يفتح الباب لشعبوية عابرة، كما أن استدعاء “الحكم القيمي” دون آليات مؤسسية ينتهي غالباً إلى وصاية جديدة. من هنا تبرز الحاجة إلى نموذج توافقي حديث، يجمع بين شرعية الإرادة الشعبية وحكمة الخبرة والضبط القيمي، وهو ما يمكن تسميته: «ديمقراطية الشورى المؤسسية».

هذا النموذج لا يسعى إلى أسلمة الدولة ولا إلى تمييع الديمقراطية، بل إلى ترشيدها. فهو ينطلق من حقيقة بسيطة: الشعب هو مصدر الشرعية، لكن القرار العام يحتاج إلى عقل جماعي وخبرة مؤسسية تحميه من التسرع، والانفعال، وهيمنة المال أو الخطاب التعبوي.

دولة مدنية بمرجعية قيمية

Ad

في هذا التصور، تكون سورية دولة مدنية ديمقراطية، السيادة فيها للشعب يمارسها عبر انتخابات حرة ونزيهة. غير أن هذه الدولة لا تقف في فراغ قيمي، بل تستمد مرجعيتها الأخلاقية من مبادئ الشورى والعدالة وحقوق الإنسان، بما ينسجم مع المواثيق الدولية، ويضمن في الوقت ذاته الحقوق الكاملة للأقليات الدينية والقومية دون تمييز.

ويُنظر إلى الشريعة الإسلامية هنا بوصفها مصدراً أساسياً للتشريع من حيث القيم والمقاصد، لا أداة إقصاء أو فرض، بل إطاراً أخلاقياً عاماً يلتقي مع مفاهيم العدالة والكرامة الإنسانية.

سلطة تشريعية مزدوجة: توازن لا صراع

اللبنة الأساسية في «ديمقراطية الشورى المؤسسية» هي النظام التشريعي ثنائي المجلس، الذي يوازن بين الديمقراطية العددية والشورى العقلانية.

فـمجلس النواب يُنتخب مباشرة من الشعب، ويمثل الإرادة العامة، ويتولى التشريع، وإقرار الموازنة، ومحاسبة الحكومة. وهو بذلك حارس الشرعية الشعبية وصمام أمان ضد عودة الحكم الفردي.

إلى جانبه، يأتي مجلس الشورى أو مجلس الحكماء، لا بوصفه سلطة فوق الشعب، بل ضابطاً مؤسسياً للقرار التشريعي. هذا المجلس يُنتخب بشكل غير مباشر من النقابات المهنية، والاتحادات، والمؤسسات الأهلية، مع تمثيل محدود لخبراء مستقلين وفق معايير شفافة. دوره لا يتمثل في التعطيل، بل في المراجعة والتدقيق: فحص القوانين من حيث دستوريتها، وعدالتها، وآثارها المجتمعية، وحمايتها من الشعبوية والقرارات المتسرعة.

بهذا التوازن، لا تطغى الأغلبية العددية، ولا تنفرد النخبة بالقرار، بل يُربط الحكم بالعقل والخبرة دون مصادرة إرادة الناس.

سلطة تنفيذية محدودة وقضاء مستقل

في هذا النموذج، يُنتخب رئيس الدولة مباشرة لفترتين كحد أقصى، وتكون الحكومة مسؤولة أمام مجلس النواب، بما يضمن تداولاً سلمياً حقيقياً للسلطة. أما القضاء، فيُحصَّن باستقلال كامل، مع وجود محكمة دستورية عليا تفصل في دستورية القوانين، بعيداً عن الضغوط السياسية، ووفق مبادئ العدالة والشورى.

الخلاصة

إن «ديمقراطية الشورى المؤسسية» ليست ترفاً فكرياً، بل ضرورة سياسية لسورية ما بعد الاستبداد. فهي تمنح الشعب حقه الكامل في الاختيار، وتمنح الدولة أدوات عقلانية تمنع انزلاق هذا الاختيار نحو الفوضى أو إعادة إنتاج الطغيان. إنها صيغة تضع سورية على طريق الدولة الحديثة: دولة القانون، والمؤسسات، والتوازن، لا دولة الفرد ولا دولة الغلبة.

وفي بلد أنهكته التجارب القاسية، قد تكون هذه الصيغة إحدى أكثر الطرق واقعية لبناء جمهورية لا يخاف فيها الشعب من السلطة، ولا تخاف فيها السلطة من الشعب.