لم يكن أنطونيو غرامشي، الذي قضى نحبه في سجون الفاشية الإيطالية قبيل الحرب العالمية الثانية، مفكراً من ذلك النوع الذي يراكم تنظيرات مجردة للعرض الذهني.  كتب غرامشي بوصفه فيلسوفاً ومحللاً اجتماعياً منشغلاً بواقع الانكسار الإنساني، وخصوصاً لدى اللامبالين، وفي مذكراته الشهيرة «لماذا أكره اللامبالين» يوجز فكرته بعبارة حاسمة:

«كل ما يحدث لا يحدث فقط بسبب الذين يفعلون، بل أيضاً بسبب الذين لا يفعلون».

ليس مطلوباً منك دائماً أن تقوم بفعل كبير تعتقد أنه سيغيّر مجرى التاريخ. أحياناً يكفي أن تتفاعل مع آلام الناس، أياً كان مكانهم. أن تسمع عن مصيبة أو أزمة تصيب جماعة أو أفراداً، فلا تقول: ما شأني؟ ما دمت بخير فلماذا أهتم؟ فالتاريخ يذكّرنا بحكمة قديمة: «أُكلت يوم أُكل الثور الأسود». 

Ad

لا يهم لون الثور، أبيض كان أم أسود، المهم أن تفكر، أن تهتم، أن تشعر بالقلق المشروع، وأن تخرج من حالة اللامبالاة إلى فضاء المشاركة الإنسانية.

في مقدمة كتاب غرامشي، التي راجعها محمد آيت أحمد، يرِد تأكيد لافت:

«ما يُسمّى واقعاً ليس معطى طبيعياً ولا قدراً محتوماً، بل هو نتيجة أفعال ولا أفعال، نتيجة ما يُنتَج وما يُهمَل، ما يُقال وما يُسكت عنه، ما يُصاغ وما يُترك خاضعاً لأهواء القوة».

ويضيف: «ثمة شيء لا يشيخ: الإصرار العميق على تسمية الأشياء بأسمائها، ألا نترك الكذب بلا اسم، ولا نمرّر البلاهة في زي الحكمة، وألا نخلع على الحياد لقب التعقّل».

هذا المعنى يجد صداه أيضاً عند ألبير كامو، أحد أبرز كتاب الوجودية وما يُسمّى خطأً بـ«أدب العبث». فمصطلح Absurd لا يعني العبث السطحي كما توحي الترجمة العربية الشائعة، بل يشير إلى رؤية عميقة للوجود ومعنى الحياة. يعيد كامو قراءة أسطورة سيزيف، المحكوم عليه بدحرجة صخرة إلى قمة الجبل لتعود وتهوي من جديد بلا نهاية. كانت تلك معاناة سيزيف وعقوبته، لكن كامو يقدّم تفسيراً مغايراً: سيزيف، وهو يدفع الصخرة عالماً بمصيرها، يجد في هذا النضال الأبدي معنى ورضا داخلياً. هكذا هي الحياة: لحظات قصيرة من الفرح، وزمن طويل من المعاناة.

الدرس هنا واضح: المعاناة حتمية، وتقبّلها جزء من النضج الإنساني. في زمن الشباب، خصوصاً في أجيال الرفاه السهل، قد ينسى الإنسان نهاياته وينشغل بذاته. لكن مع التقدّم في العمر، يصبح حمل بعض هموم الناس ضرورة أخلاقية. فمن دون هذا الحمل، ومن دون هذا الانشغال بالآخرين، يفقد الإنسان جوهر إنسانيته.