حين أجلس مع سبيكة الجاسر، يخيل إليّ أن الوقت يفقد معناه، الحديث معها لا يُقاس بالساعات، لأن ساعة واحدة لا تكفي، ولا حواراً عابراً يستطيع أن يحيط ببحر من المعرفة والتجربة والذاكرة، هي من تلك النساء اللواتي لا يرفعن أصواتهن ليُسمعن، بل يُصغى إليهن لأن في كلامهن عمقاً، وفي حضورهن طمأنينة.

متواضعة حدّ البساطة، صاحبة ابتسامة بشوشة لا تتكلفها، وحنان يسبق كلماتها، تشعر أمامها بأنك أمام امرأة تعرف متى تتكلم ومتى تصمت، ومتى تترك للآخر مساحته ليكون نفسه، ولعل لقب «أم عبدالمحسن» هو الأقرب إلى قلبها، لأنه يلخص جوهرها الإنساني قبل أي تعريف آخر.

«ماما سبيكة» هكذا يناديها الأطفال والفتيات من ذوي الإعاقات الذهنية والجسدية، فما إن تدخل المكان حتى يتغير المشهد كله، وجوه تشرق، وخطوات تسرع نحوها، وأذرع تمتد لتحتضنها قبل أن تحتضنهم، تعرفهم بأسمائهم واحداً واحداً رغم كثرتهم، وتسأل عن أحوالهم بعناية من يعرف التفاصيل لا من يؤدي واجباً، تضحك معهم، وتشاركهم الفرح بصدق، وتمنحهم إحساساً نادراً بالأمان.

Ad

وحين تقترب منها «مها»، وهي فتاة من ذوات الإعاقة الذهنية، وتسألها كعادتها «ماما سبيكة لا تنسين عيد ميلادي بعد يومين»، تجيبها بثقة الأم وصدق الوعد بأنها ستكون حاضرة، وستقيم لها حفل عيد ميلاد كما تحب، في تلك اللحظة تدرك أن ما تفعله سبيكة الجاسر لا يُقاس بالمناصب ولا بالبرامج، بل بالذاكرة، وبالوفاء للتفاصيل الصغيرة التي تصنع الفرق الحقيقي.

لم تنظر سبيكة الجاسر يوماً إلى الإعاقة بوصفها نقصاً، بل تعاملت معها كقضية كرامة وعدالة، كانت صاحبة رؤية مبكرة وفكر سابق لعصره، رأت ما لم يكن شائعاً آنذاك، وتحدثت بلغة لم يكن المجتمع مستعداً لها بعد، لذلك جاء عملها مع ذوي الإعاقة هادئاً، طويل النفس، بعيداً عن الاستعراض، وقريباً من الإنسان كما هو.

ويُحسب لها تاريخياً أنها كانت من أوائل من نقلوا التجارب العالمية إلى الكويت، بل كانت من السبّاقات في إدخال برنامج الماكاثون البريطاني للتواصل اللغوي باستخدام الرموز، والإشارة، والكتابة، بعد اطّلاعها عليه في بريطانيا في ثمانينيات القرن الماضي. ولم تكتفِ بنقل التجربة كما هي، بل عملت على تكييفها وتطويرها بما يتناسب مع البيئة العربية والإسلامية، لخدمة ذوي الإعاقة، وكانت خطوة واعية سبقت زمنها، انطلقت من إيمان عميق بأن توفير أدوات التواصل هو المدخل الحقيقي لتمكين ذوي الإعاقة.

وأعلم أن «أم عبدالمحسن» ستعاتبني على كتابة هذا المقال، بحكم حبها للعمل الجاد بعيداً عن الأضواء، وأرجو أن يكون عتابها رقيقاً، فقلبي كما تعرفه «رهيف»، ولكن ثمة ما يدفعني إلى الكتابة، وهو شعور يتكرر كثيراً أننا نحتفي غالباً بالنماذج الأجنبية، ونستحضر التجارب البعيدة، بينما بيننا نساء عظيمات قدّمن الكثير بصمت، وأسّسن لمسارات إنسانية سبقت زمنها. إن الكتابة عن سبيكة الجاسر، وعن أمثالها من السيدات الكويتيات، ليست مجاملة ولا ترفاً، بل واجب أخلاقي لتسليط الضوء على نماذج صنعت الأثر الحقيقي من داخل المجتمع.

وحين أتأمل أثر «ماما سبيكة»، لا أجد توصيفاً أصدق من «رائدة التمكين الإنساني»، فهو ليس لقباً عابراً، بل خلاصة مسيرة تاريخية امتدت لأكثر من أربعين عاماً، صاغها عمل صامت، ورؤية سبقت زمنها، وأثر إنساني لا يزال حاضراً حتى اليوم. امرأة سبقت عصرها، وعملت من قلبها، بعيداً عن الأضواء، وبمثلها نشعر بأن الحياة ما زالت عامرة بوجوه الخير.