ألقى الرئيس الفرنسي في 27 فبراير الماضي خطاباً كان مرتقباً في مختلف الأوساط السياسة والإعلامية والشبابية، وأعلن فيه اعتماد خدمة عسكرية ومدنية ولكنها تطوعية، ولمدة عشرة أشهر اعتباراً من صيف 2026، وتم تحديد عمر المتطوعين من الجنسين ما بين 18 إلى 25 عاماً، وستكون مقابل أجر شهري، كما أكد أن هذه الخدمة ستجري داخل الأراضي الفرنسية، بمعنى آخر لن يتم إرسال هؤلاء الشابات والشباب في مهام عسكرية خارجية، في إشارة إلى بعض ما قيل إنه سيتم إرسال الشباب الفرنسي للحرب في أوكرانيا. وأوضح الرئيس كذلك أن تمويل برنامج هذه الخدمة سيتم من خلال البرنامج العسكري الفرنسي لأعوام 2026 - 2030، كما أكد أنه لا يمكن تجنب الأخطار المحدقة بأوروبا، والحل الوحيد لتجنبها هو الاستعداد لها.
لماذا كان هذا الخطاب مرتقباً؟ طُرحت تساؤلات وحامت شكوك تبعاً لتصريحات رئيس أركان الجيش الفرنسي الذي ركّز بتاريخ 22 نوفمبر، وأمام المؤتمر السنوي لرؤساء بلديات فرنسا، على أهمية تهيئة الجيش الفرنسي لخطر الحرب في أوروبا، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حين قال إنه يجب الاستعداد لقبول فقدان الأبناء. وكان لهذه التصريحات أصداء مختلفة ومتنوعة في الأوساط السياسية والإعلامية والمجتمعية في فرنسا بين معارض ومؤيد لها، وهو ما دفع بالرئيس الفرنسي في مرحلة أولى للتصريح في المؤتمر الصحافي الذي عقده بقمة مجموعة العشرين في جنوب إفريقيا، بأن رئيس الأركان يحظى بثقته الكاملة، مضيفاً أنه لم يهدف بكلامه إلى نشر الخوف. وجاء الخطاب الرئاسي في مرحلة لاحقة ليوضح الموقف الرسمي من موضوع الخدمة العسكرية والمدنية التطوعية.
كما جاء الخطاب في ظروف سياسية وعسكرية واستراتيجية حساسة تعيشها البلدان الأوروبية منذ غزو الاتحاد الروسي لأراضي الجمهورية الأوكرانية في 24/2/2021. ولاتزال المعارك مستمرة ومحتدة بين الحين والآخر بين القوات الروسية والقوات الأوكرانية، وعمليات الكر والفر تجري من قبل الطرفين، ولو أن الكفة أصبحت ترجح في الأسابيع الأخيرة لصالح القوات الروسية التي عززت مكانتها واحتلالها للمدن وللمقاطعات الأوكرانية على طول الحدود الشرقية لأوكرانيا.
كانت الأوضاع هادئة مستقرة في أوروبا قبل الغزو الروسي لأوكرانيا، وتقبلت الدول الأوروبية ومعها الاتحاد الأوروبي ولو على مضض، الغزو الروسي لمنطقة القرم عام 2014 وضمها لاحقاً لأراضي الاتحاد الروسي. وتوقعت هذه الدول أن الشهية الروسية ستتوقف عند هذا الحد، خصوصا بعد التوقيع على اتفاقية منسك (عاصمة روسيا البيضاء) الأولى عام 2014، ومنسك الثانية 2015. ولكن الغزو الروسي عام 2021 أعاد الأمور إلى مربعها الأول بخصوص رغبة الاتحاد الروسي بضم عدد من مقاطعات شرق أوكرانيا إلى أراضيه.
تنبهت الدول الأوروبية إلى ضرورة إعادة النظر في تسليحها وجيوشها وخططها الاستراتيجية، ولم يعد هناك مفر من تحديث الأسلحة العسكرية وتطويرها وزيادة إنتاجها، وتقوية الجيوش وحسن تدريبها وزيادة عددها، وتعزيز دفاعاتها العسكرية والاستخباراتية وتطويرها. ويندرج القرار الأخير لرئيس الجمهورية الفرنسية في سياق تعزيز قدرات جيوشها في الوقت الذي تعمل فيه على تعزيز جاهزيتها العسكرية والاستخباراتية، استعداداً لما يمكن أن يستجد مستقبلاً على الساحة الأوروبية.