في زمنٍ تتحكم فيه التِّرندات واللايكات، وتضيع فيه الثَّقافات والحضارات، ويصبح الغثاء هو عنوان المرحلة، بل هو قابض لجامها، يكاد الضَّوء العربي أن يختفي، وتكاد الثَّقافة العربية الخصبة أن تتلاشى وتندثر، كيف لا؟! فحين تتباهى الدول الغربية بتزايد أعداد إصداراتها ومؤلفاتها عاماً تلو الآخر، بل تحمل مؤشراتها التَّنموية أرقاماً مرتفعة لأولئك الذي يقرأون تلك الكتب والمؤلفات في العام الواحد، نفاجأ نحن في عالمنا العربي بالاختفاء المتتالي والتواري المنظَّم للعديد من المجلات الثقافية، وبسرعةٍ شديدةٍ وأعوامٍ قليلة، فمثلاً «مجلة دبي الثَّقافية» انضوت، ولحقتها «مجلة الدوحة»، وبعدها تلاشت الكثير والكثير، حتى كان آخر الآزفين مجلة «الثَّقافة الشعبية» الصادرة من مملكة البحرين – والتي كنت أحد باحثيها وكُتَّابها–، وهذه المجلات أو المنصات أو النوافذ للثقافة العربية وغيرها كانت في يومٍ ما نباريس ضوءٍ، وومضات نورٍ تُضيء دروب القراء العرب، وتتحفهم بإبداعات كُتَّابه ومؤلفيه ومُفكريه، بل تعدُّ جسوراً للحوار بين الأجيال، وذاكرةً خصبةً تحفظ التُّراث الفكري والمعرفي والأدبي العربي.
وقد تتعدَّد الأسباب وتتنوَّع، ولكنها تصبُّ في مشكاةٍ واحدة، ألا وهي انعدام النور، وضياع البصيرة، وتوهان الوهج، فإذا كانت الأزمات الاقتصادية قد أثرت ببعض الدول العربية ذات الاقتصادات الضَّعيفة كاليمن مثلاً، ولكنها حتماً لا ولم تؤثر فعلياً في الدول ذات الدخول النِّفطية المرتفعة، فالمؤشرات الدولية وعلى رأسها تقارير منظمة اليونسكو، وآخرها الصادر عام 2023م، والتي توضِّح بأن الدول العربية جميعها تنفق (0.3%) من ميزانياتها على الجانب الثقافي، مقارنةً بما تنفقه الدُّول الأوروبية مثلاً والذي يتجاوز ال(3–5%)، أضف إلى ذلك غياب الاستراتيجيات الثقافية طويلة الأمد في الدول العربية، مما جعلها ذات هوياتٍ ضعيفةٍ يسهل اختراقها، وبالتالي حدوث انهيارٍ في الذاكرة الجمعية وقطع الآمال بالمستقبل.
كما قد يذهب البعض إلى اعتبار أن الطَّفرة التكنولوجية هي وراء هذا الانضواء والانزواء لإصداراتها الورقية، ولكنها ليست حجةً في أن تظل هذه النَّباريس والشُّعل تصدر إلكترونياً بصورةٍ مستمرة لتواصل أداء رسالتها، وتقديم رؤيتها وبصيرتها في وقتٍ العرب أنفسهم في أمس الحاجة إلى هذه الإصدارات، وتلك المنتوجات.
لنصل إلى أن الاختلال قائمٌ ليس في اختفاء تلك الإصدارات فحسب، بل في غياب الإرادة والإدارة الحقَّة، وفي ضعف النِّظام الثَّقافي الشَّامل الذي يُعاني من هيمنة القضايا السِّياسية العربية على حساب التَّنوع والثَّراء المعرفي والفكري، لنجد أن الثَّقافة في الوطن العربي هي الدُّرة اليتيمة في سُلّم الاهتمامات وفي خريطة الأولويات العربية، الأمر الذي تكاد فيه أن تكون الغائب الأكبر في وضعٍ مُزدحمٍ بالصِّراعات والحسابات السِّياسية والاقتصادية، بينما تُنفق المليارات على الحروب والدِّعايات والإعلام التَّرفيهي والاستهلاكي... وهذه الحقيقة ليست وليدة اللَّحظة، بل هي امتدادٌ لمسارٍ طويل من التَّهميش الذي جعل الثَّقافة تبدو كأنها ترفٌ يُمكن الاستغناء عنه في أيِّ وقتٍ وحين، وليس باعتبارها ركيزةً أساسيةً في بناء مجتمعاتها، وقيمةً جوهرية لبناء إنسانها، بل شرطاً وجودياً لتحقيق نهضتها العربية، لذلك فإن تهميشها يعني ببساطة إعادة إنتاج الفراغ الذي يُغذِّي الجهل والتَّطرف والتَّخلف، وإذا ما أراد العرب مكاناً في عالم الغد، فعليهم أن يدركوا أن الثَّقافة ليست الهامش، بل الأصل والفصل.
* صحافي يمني