كلّفت طلابي بالبحث عن تشريع حديث وإحضاره معهم في المحاضرة القادمة بقصد تدريبهم على الالتزام العلمي وتعويدهم على المناقشة العامة، غير أنّ النتيجة كانت مخيبة، لا بل صادمة، إذ لم يتجاوب مع التكليف سوى 5% من العدد الإجمالي. وعند الاستفسار عن الأسباب، لم أستشف من الإجابات سوى الاعتياد على الاتكالية، والاكتفاء بالشرح المباشر، وغياب الإحساس بعواقب التملص من الواجب!

هذه التجربة -التي ربما أصبحت سلوكاً معتاداً لدى النشء العربي- انعكاس لمعضلة أعقد تواجهها مجتمعاتنا، وهي ضعف الحسّ بالمسؤولية الفردية والجماعية، فالمشكلة لم تعد محصورة في الإطار التعليمي، بل تجاوزته إلى ميادين العمل، والإدارة، والحياة العامة، إذ إن ذهنية «القيام بالحد الأدنى» وانتظار المبادرة من الآخر، باتت سلوكاً شائعاً، يحول دون أي نهضة حقيقية أو إصلاح فعلي.

لقد أفرزت العقود الماضية نمطاً تربوياً يعتمد على التلقين بدلاً من التفكير، والطاعة عوضاً عن المبادرة. النمط التقليدي مازال يكرّس سلطة المعلّم بوصفه المصدر الوحيد للمعرفة، ويقمع السؤال والبحث الحرّ، مما أدى إلى أجيال تحفظ ولا تفكّر، وتُقلّد ولا تُبدع، وأصبح الواجب الدراسي يبدو كأنه مهمة خارجة عن دائرة الاستطاعة.

Ad

***

للأسف لم يتغيّر الأمر كثيراً في زمن الذكاء الاصطناعي الذي يتعامل معه الأساتذة والطلاب باتكالية خارجة عن كل القيم، أو بحذر نفسي وجمود مؤسسي، مما حال دون إدماجه بفعالية في المناهج، رغم أنّه يشكّل فرصة تاريخية لإعادة صياغة العملية التعليمية، وقد أثبتت التجارب الدولية الناجحة أنّ دمج الذكاء الآلي لم يعد ترفاً بل ضرورة لبناء جيل يمتلك أدوات المستقبل. التحدي يكمن في الذكاء التربوي القادر على توجيه الذكاء الآلي وتوظيفه ضمن رؤية متكاملة تجعل المعلم باب الولوج للمعرفة والطالب شريكاً فيها، بما يعيد للتعليم العربي قدرته على إنتاج الفكر لا مجرد استهلاك المعلومة.

***

لا يختلف المشهد كثيراً في الحياة العامة والسلوك العملي، فثقافة الاتكالية تسلّلت إلى خلايانا الأسرية والمجتمعية، وإلى مؤسساتنا الخاصة والعامة. فمازال الشاب يخجل من ممارسة الأعمال والمهن التي يراها «صغيرة»، في حين أن المجتمع اعتاد على شراء الراحة بالمال، أما المواطن، فما فتئ أن يطالب الدولة بكل شيء دون أن يقوم بأقل واجبات المواطنة. الموظف ينتظر التوجيه ويخشى المبادرة، والمسؤول يغطي عجزه على أن يكون قدوة بممارسة طقوس التسلط الإداري. 

وهكذا ترسم حلقة مفرغة من التقصير والتبرير، تُضعف الإنتاجية، وتُميت روح المبادرة، وتُعطل الإبداع، فالمشروعات العامة كثيراً ما تتأخر بسبب غياب المتابعة أو ضعف الإحساس بالمسؤولية، والطرقات تمتلئ بالحفر والنفايات دون أن يُبادر أحد إلى الإبلاغ أو «إماطة الأذى عن الطريق». ولنفس الأسباب تتراجع مشاركاتنا في المبادرات التطوعية أو اللجان المحلّية، وكأنّ الشأن العام لا يعني المواطن إلا بقدر ما يمسّ مصلحته المباشرة لا المصلحة العامة التي غفل معظم الناس عن أنها تعني في حقيقتها «مجموعة المصالح الفردية»! 

***

إنها مظاهر صارخة لعجزٍ جماعيٍ مقنّعٍ بالخوف أو اللامبالاة، مما جعل مجتمعاتنا تسير بخطى ثابتة نحو التراجع، رغم ما نمتلكه من طاقات بشرية قادرة وإمكانات مادية هائلة، فحين يغيب الإحساس بالواجب، تتحول المؤسسات إلى هياكل شكلية، وتصبح التنمية مجرّد خطط مكتوبة لا تجد من ينهض بها على أرض الواقع.