قبل أيام جلست مع صديق فلسطيني وُلِد في الكويت، لا يعرف أرضاً غيرها، ولا ذاكرة سوى مدارسها وشوارعها ورائحة بحرها. قال لي جملة قصيرة لكنها اختزلت وجعاً طويلاً: «أشعر أني ضيف غير مرحّب به... رغم أن أبي جاء للكويت منذ عام 1953». تجمّدت الكلمات داخلي، لأن الغربة هنا لم تكن في المسافة، بل في الشعور، فالغربة الحقيقية ليست أن تبتعد، بل أن تكون في قلب المكان ومع ذلك يُقال لك: أنت لست منّا. الفلسطينيون وغيرهم من الوافدين لم يهبطوا على الكويت كزائرين مؤقتين. كانوا في أول فصل دراسي، في أول جناحٍ طبي، في أول مشروع هندسي. كانوا جزءاً من التأسيس لا عابرين، شركاء في النهضة لا ظلالاً هامشية. من علّم جيلاً كاملاً لا يُختصر في ورقة إقامة، ومن عاش نصف قرن لا يمكن أن يُعاد تعريفه بكلمة وافد وكأن الذاكرة تُمحى بممحاة. هنا يبدأ السؤال المؤلم: كيف تتحول سبعون سنة من الحياة إلى حالة مؤقتة؟ كيف يصبح من ساهم في البناء غريباً في البيت الذي شارك في رفع جدرانه؟ وهل الوطن مجرد حدود أم ذاكرة مشتركة بين من عاشوا عليه وتعبوا فيه؟ العنصرية تجاه الوافدين يجب أن تقف. ليس لأنها قسوة فقط، بل لأنها انحراف عن معنى الكويت التي عرفها الآباء، فالكويت التي بنوها لم تكن تضيق بالآخر، لم تزن الإنسان بجوازه. كانت واسعة كالهواء، مفتوحة كالبحر، تُقاس بالعطاء لا بالورق. اليوم حين نسمع أصواتاً تصرخ «ارجع لبلدك»، فنحن لا نحمي الوطن... بل نجرّده من روحه. نحوّل التاريخ إلى نقطة ضيقة، ونحوّل الإنسان إلى رقم، ونحوّل المجتمع إلى جدار، الوطن ليس وثيقة تُجدد. الوطن انتماء يتجذر. طفل فلسطيني ينشد النشيد الوطني في يومه الدراسي لا يقل انتماءً عن أي طفل آخر. ورجل عاش عمره هنا لا يصبح غريباً لأن مزاجاً عاماً تغيّر. الوطن مساحة نكبر فيها معاً أو نصغر فيها معاً. هذه ليست كويت الأجداد إن تحولت للتمييز. هذه ليست الكويت إن صار القياس بالدم لا بالقيمة. الكويت التي نريدها ونفخر بها هي التي تُقيم الإنسان بما قدّم، بما زرع، بما علّم، بما بنى لا بما كتب على صفحته الأولى من جواز السفر. فلنقلها بوضوح لا يلتوي: العنصرية تجاه الوافدين ليست من الكويت، ولا تشبه تاريخها، ولا تليق بمستقبلها. من عاش هنا، من تعب هنا، من بنى وشارك ووقف... ليس ضيفاً. الضيف الحقيقي هو الجحود، والغريب الحقيقي هو من لا يرى الإنسان إلا لوناً أو جنسية. الكويت تكبر بالعدل، لا بالرفض. تتسع بالمحبة، لا بالإقصاء. وطنٌ يُبنى بالناس جميعاً... أو لا يُبنى أبداً.
Ad