«وين فلانة؟»، سؤال خرج مني هذه المرَّة بإصرار، بعد أن اكتشفت فجأة أن سنوات طويلة مرَّت من دون أن نراها، وكل ما نسمعه أعذار خفيفة تغلق الحوار وتؤجل الحقيقة، لكن الإجابة هذه المرَّة جاءت صادمة: «منذ كورونا لم تخرج من المنزل. تظن أن العالم مازال كما تركته».
توقفت عند هذه الجملة طويلاً، لم تكن حالة فردية، كما اعتقدنا، بل نموذج صامت يتكرَّر في مجتمعنا من دون أن يلتفت إليه أحد. أشخاص اختفوا تدريجياً من الحياة، صار الخوف جزءاً من يومهم، وتحوَّلت العُزلة التي بدأت كإجراءٍ مؤقت إلى أسلوب حياة، ومع الأسف نحن حولهم منشغلون، نظن أن المسألة «عادية»، فيما هي بالحقيقة استغاثة مؤجلة.
الصحة النفسية ليست تفصيلاً صغيراً، أو هي رفاهية، كما يعتقد البعض، بل هي أساس اتزان الإنسان وقُدرته على العيش، ومع ذلك مازال البعض يعتبر طلب المساعدة ضعفاً، أو يخشى نظرة المجتمع، ورغم وجود خطٍ ساخن مجاني للاستشارات النفسية والأسرية على الرقم 1804447 يمكن الاتصال به بسريةٍ تامة، ولا يهمهم أن يعرفوا مَنْ أنت ومَنْ تكون، وهناك تطبيقات مجانية مع مختصين معتمدين.
وسط هذا كله، تأتي الجملة التي يرددها البعض من دون أن يتوقف عند معناها حقاً «هناك في الحياة ما يستحق أن تعيش لأجله»، وهذه ليست نصيحة عابرة، ولا جملة جميلة، بل حقيقة واقعية، مهما ازدادت العتمة حول الفرد. صحيح أننا كبشر نمرُّ بأيامٍ نشعر بأنها ثقيلة، وتشعر بأنك تائه في هذه الحياة، وهو أمر إنساني طبيعي جداً، ونمرُّ به جميعاً، لكن الحياة لا تُطفئ نورها بالكامل، بل تترك دائماً نافذةً صغيرة يدخل منها شيء يُعيد إلى الإنسان نفسه، كلمة صادقة، خطوة واحدة خارج الغرفة، محاولة للحديث مع مختص، أو حتى شعاع شمس يغيِّر المزاج من دون أن ننتبه.
ولا يشترط أن يكون ما يستحق أن تعيش لأجله إنجازاً كبيراً أو نجاحاً يصفق له الناس. مَنْ قال لك إن النجاح هو كما يصوِّره الإعلام بشكلٍ مضخَّم؟ هل تعرَّضت للظلم؟ ومَنْ قال لك إنك وحدك؟! مَنْ منَّا لم يتعرَّض للظلم؟! ومَنْ منا لم يبكِ؟ لست وحدك.
عليك أن تتذكَّر أن نفسك أمانة من الله، وأن محبَّتك لذاتك ليست رفاهية، بل هي واجب، وأن إنقاذ روحك مقدَّم على انتظار حُب الآخرين، فالحُب الحقيقي يبدأ منك، لا من الخارج.
وفي زمن تغذي بعض زوايا السوشيال ميديا صوراً مظلمة عن العالم، كأنه مكان خطر ومليء بالشر، ولا أمان، يُصبح من الضروري أن ننتبه، أن هذه الصورة ليست كل الواقع، هو ضجيج يجر الإنسان نحو مستنقع التشاؤم، فالحياة أرحب، بحلوها ومُرها، ومازالت مليئة بالفرص والعلاقات واللحظات التي تستحق أن تعيشها.
اسألوا عن بعض، وتواصلوا، فالحياة قصيرة جداً، وكونوا لُطفاء، فالعالم يحتاج إلى اللطف والرحمة.
في النهاية...
الحياة لا تنتظر مَنْ يسجن نفسه... هي تمضي، لكنها تمدُّ يدها لمن يجرؤ على العودة.