لم يكن مساءُ دبي مختلفاً عن غيره، لكن ما جرى فيه كان كفيلاً بأن يبدِّل شيئاً عميقاً في داخلي. جلستُ إلى حفيدي أليكس، كعادتي كلَّما زُرتُ ابنتي، أراقبُ عينيه اللامعتين وهما تحكيان قبل أن ينطقَ بكلمةٍ واحدة. سألته عن مدرسته وأصدقائه، وهو لا يزال في صف الـ Pre-K، فراح يحدثني عن عالمه الصغير، الذي تضجُّ فيه البراءة، وتختلط فيه الدهشة بالأسئلة.وفجأة، توقَّف، كأن فكرةً ثقيلة هبطت على قلبه الصغير. رفع عينيه نحوي، وسأل: «جدو... ماذا تفعل بزميلي الذي يضايقني؟».كان السؤال بريئاً، لكن جوابي لم يكن كذلك.لم أمهل نفسي لحظة تفكير؛ انطلقتُ من انفعال الأبوة الكبيرة التي في صدري، ومن بقايا ثقافة قديمة تسكن اللاوعي، فقلت له بسرعة: «مَنْ ينظر إليك نظرةً غريبة... أقتله!».ما إن خرجت الكلمة من فمي حتى شعرت أني قُلت ما لا يُشبهني، لكن الندم الحقيقي كان حين نظرت إلى أليكس.رأيته يصمت، يبتلع الكلمة كمن تلقَّى حجراً في قلبه. لم يفهم كيف يمكن للقتل أن يكون حلاً، ولا كيف يمكن أن يصدر ذلك من جدِّه الذي يُحبّه.ثم قال بصوته الطفولي الهامس: «No, Jiddo... you don’t kill him.You should tell him, with love, not to bother me».كانت تلك اللحظة مثل نفسٍ جديد يدخل إلى صدري. كأن الطفل لم يكن يجيب فحسب، بل كان يُعيد ترتيب العالم أمامي. أدركت حينها كم نربِّي أولادنا على ما نحمله من دون وعي، وكم تتسرَّب منَّا مفردات لا تليق بنا، ولا تتوافق مع حقيقة ما نؤمن به.وتذكَّرت حينها كلمات سكنت قلبي طويلاً، لكنها غابت عن لساني تلك اللحظة...تذكَّرت صوت السيد المسيح، عليه السلام، وهو يقول: «أحبّوا أعداءكم». ذلك النداء الذي يُطفئ الشرَّ بالمحبَّة، لا بالعنف. وتذكّرت قول الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم: «ارحموا مَنْ في الأرض...».وكأن الرحمة كانت تجلس معنا في تلك اللحظة، تُمسك بيد أليكس، وتدلّني على الطريق.وخطرت في بالي حكمة الإمام علي، عليه السلام: «الناس صنفان: إمّا أخ لك في الدِّين، أو نظير لك في الخلق».فكيف يجوز أن أخوِّف «نظيري في الخلق» لطفلٍ يراه صديقاً قبل أن يراه خصماً؟ كل ذلك تدفَّق في داخلي وأنا أنظر إلى حفيدي. أدركت أن كلمةً غير محسوبة قد تُرعب طفلاً، أو تُشوِّه بداخله صورة العالم، أو تزرع فكرةً لا تليق بسلام طفولته. وأدركت أن التربية ليست ما نقوله بوعي، بل ما يتسرَّب منَّا بلا قصد، وأن أولادنا وأحفادنا لا يلتقطون كلماتنا فقط، بل نوايانا وظلال ثقافتنا.ذلك المساء علَّمني ما لم تعلِّمني إياه سنوات القراءة والفكر: أن السلام يبدأ في العبارة الصغيرة، في اختيار الكلمة، في الصبر على الانفعال، وفي الإيمان بأن الحُب ليس ضعفاً، بل حكمة، وأن الأطفال هم أصدق الناس فهماً لهذه الحقيقة، لأنهم لم يتعلَّموا بعد فنون الكراهية التي يُتقنها الكبار.ومنذ ذلك اليوم، كلما تذكَّرت تلك النظرة على وجه أليكس، قُلت لنفسي: ربما جِئت لأعلِّمه شيئاً، لكنني خرجت من جلسته وأنا الأكثر تعلُّماً.ولهذا أكتب...ليكون هذا الدرس ذكرى له، ووصيةً لي، ودعوةً صغيرة في بحر العالم الكبير: أن نربِّي أنفسنا قبل أن نربِّي أبناءنا، وأن نعلِّمهم لغة المحبَّة قبل لغة الرد، وأن نترك خلفنا ما يصنع أثراً من نور... لا من خوف.
مقالات - زوايا ورؤى
تعلَّمتُ من حفيدي
25-11-2025