تعيش وزارة العدل اليوم مرحلة إصلاحية لافتة، تتسارع فيها خطوات تحديث الإدارة العامة وتطوير آليات العمل الحكومي. وفي وسط هذا الحراك الوطني، تظهر وزارة العدل كجهة تتحرك بإيقاع متسارع يبعث على التفاؤل بأن العدالة يمكن أن تكون أسرع، وأكثر وضوحاً، وأقرب إلى المواطن. فمنذ شهور قليلة، بدأ المواطن يلمس تغيرات عملية في التقاضي والمرور والتنفيذ والتوثيق، وهي مجالات لطالما ارتبطت بالتأخير والتعقيد والازدحام، لذلك فإن ما يجري اليوم داخل الوزارة يستحق قراءة متأنية تسجل الإيجابيات دون مبالغة، وتعرض الملاحظات دون تجنٍّ أو تهوين.

تسريع إجراءات التقاضي: العدالة حين تصبح أقرب

أحد أهم التحولات التي برزت أخيراً هو التوجه الجاد لتقليص زمن الفصل في القضايا البسيطة، خصوصاً المرور والمخالفات والإجراءات التنفيذية. فالمراجعات التي كانت تستغرق شهوراً باتت تُحسم خلال أيام، وأحياناً خلال ساعات، عبر إصدار قرارات سريعة تنفذ تلقائياً ما لم يتم الاعتراض خلال المهلة القانونية. هذا التغيير لا يعكس مجرد نشاط إداري، بل رؤية واضحة بأن العدالة البطيئة نوع من الظلم، وأن المنظومة يجب أن تتكيف مع حاجات الناس وسرعة عصرهم.

Ad

تحصيل الديون: انضباط في السوق وطمأنة للدائنين

لأول مرة منذ سنوات، بدأ المجتمع يلاحظ أن إجراءات الضبط والإحضار المتعلقة بالديون لا تُركن على الرفوف، بل تُنفذ ضمن ضوابط قانونية تحمي الطرفين. هذا التفعيل رفع مستوى الانضباط في السوق، وأعاد الاعتبار لفكرة أن الالتزامات المالية واجبة السداد، وأن المماطلة لم تعد خياراً آمناً، كما أعطى الدائنين قدرة حقيقية على تحصيل حقوقهم، وهو أمر طال انتظاره من شريحة واسعة من المواطنين والمؤسسات.

المحاكم المتخصصة: خطوة نحو عدالة أكثر تنظيماً

توسيع نطاق المحاكم المتخصصة يمثل تحولاً مهماً يتجاوز الجانب الإجرائي إلى بناء خبرات قضائية عميقة في مجالات محددة. تقسيم القضايا حسب طبيعتها، وتخصيص دوائر لمنازعات المرور والتنفيذ والاستئناف المبسط، كلها خطوات تقلل الضغط على الجهاز القضائي وتمنح القاضي فرصة أكبر للتركيز والإحاطة بتفاصيل القضايا، وهو مسار طالما دعت إليه المؤسسات القانونية والمهتمون بالشأن القانوني.

الرقمنة: انتقال محسوب من الورق إلى الأنظمة الإلكترونية

تسير وزارة العدل اليوم نحو رقمنة واسعة في خدماتها، في خطوة تتماشى مع التجارب الناجحة بالمنطقة، وعلى رأسها التجربة السعودية في العدالة الرقمية، وتحديث الوكالات وتحويلها إلى نظام إلكتروني محكوم بمدد وصلاحيات واضحة، وربط قطاعات الوزارة – من النيابات إلى التنفيذ إلى الاستئناف – ضمن منظومة واحدة، وإطلاق خدمات مرور إلكترونية تقلل الحاجة للمراجعة... كلها إجراءات تضع العدالة على الطريق الصحيح. وقد لا تكون هذه التحولات مكتملة بعد، لكنها تمثل بداية جادة لنظام قضائي أكثر سرعة وكفاءة.

الازدحام ونقص المواعيد: تحديات حقيقية لا يمكن إغفالها

رغم الإيجابيات، لا تزال إدارات التوثيق تعاني من ازدحام كبير ونقص في المواعيد، نتيجة زيادة الطلب وقلة الموظفين وبطء البنية القديمة في بعض المواقع، كما أن الانتقال السريع إلى الأنظمة الإلكترونية عادةً يربك شريحة من المواطنين غير المعتادين على الخدمات الرقمية. هذه التحديات تتطلب معالجة مستمرة، وخطة واضحة لتطوير البنية التقنية وتدريب الكوادر واستيعاب الأعداد الكبيرة من المراجعين.

ضيق دائرة الاستشارات: سرعة الإنجاز تحتاج إلى توازن

من الملاحظ أيضاً أن الرغبة في إنجاز الإصلاحات أحياناً تقود إلى تقليص دائرة الاستشارات القانونية والفنية، وهذا أمر قد يبدو إيجابياً في ظاهره لأنه يختصر الوقت، لكنه يحمل مخاطر بعيدة المدى، فالتعديلات التشريعية العميقة تحتاج إلى مشاركة القضاة، والمحامين، والمتخصصين، ومؤسسات المجتمع المدني، والقطاع الأهم من القضاة والمستشارين المتقاعدين الذين يشكلون الخبرات الواسعة والمتراكمة. فغياب هذا التشارُك يخلق انطباعاً بأن القرارات قابلة للتغيير السريع، ويضعف ثقة المستثمر الأجنبي الذي يبحث دائماً عن بيئة قانونية مستقرة.

إشراك السلطة القضائية: ضمانة لإصلاح أعمق

مع الزخم الحالي، من المهم أن تُشرك الوزارة السلطة القضائية بصورة أكبر في صياغة الرؤية وتطوير الإجراءات، فالقضاة ليسوا منفذين للقانون فقط، بل صناعٌ للعدالة ورعاةٌ لتوازنها. مشاركتهم عبر لجان أو مجالس استشارية دائمة ستمنح الإصلاحات حصانة مؤسسية، وتدعم تسريع الفصل في القضايا، وتحمي حقوق المواطنين والمقيمين، وتبعث برسائل طمأنة للمستثمرين بأن الكويت الجديدة تُبنى بقواعد راسخة لا بقرارات فردية أو ظرفية.

خاتمة: عندما تتحرك العدالة تتحرك الدولة

إن ما يجري اليوم في وزارة العدل يمثل بارقة أمل بأن يكون إصلاح القضاء جزءاً من نهضة الكويت الحديثة. التحولات ليست مثالية ولا مكتملة، لكنها تتحرك في الاتجاه الصحيح، وتفتح الباب أمام بيئة قانونية أكثر وضوحاً وشفافية واستقراراً. والواجب على الجميع – من مواطنين ومهتمين بالشأن العام – دعم الخطوات الإيجابية، والتنبيه على الثغرات، ودفع عجلة الإصلاح نحو منظومة عدلية تليق بالكويت وطموحها.

* وزير الصحة الأسبق