البداية: وصلتني رسالة نصية على برنامج التواصل الاجتماعي (واتس آب)، صبيحة يوم السبت، من ابنتي أم بدر، تدعوني إلى مشاركتها «الريوق»- إفطار الصباح.
في تلك الأثناء كُنت وحفيدي بدر ننتظر الفطور، بدر منشغل بتصفح الآيباد، يُشاهد الأفلام الكرتونية. التفت إليه، طالباً منه أن يقفل الجهاز. بدر استجاب مع ابتسامة.
عند ذلك وكل شيء على ما يُرام، أسأله ويجيب عن المدرسة، وعن تقدُّمه في رياضة ركوب الخيل. أستمع إليه في غاية السعادة. هنا أدركت كمية الحاجة للعودة إلى حياتنا الطبيعية من دون وجود هذا العالم الافتراضي، الذي اختطف جزءاً كبيراً منَّا على حين غفلة.
عادت بي الذاكرة إلى أيام الطفولة، وأيام الدراسة من الابتدائي إلى الثانوي، التي لم يكن فيها سوى الهاتف المنزلي والراديو والتلفاز بالأبيض والأسود والجرائد والمجلات الورقية.
استمرَّت حياتي على هذا المنوال حتى مرحلة الجامعة من دون تغيير يُذكر سوى من التلفزيون، الذي أصبح بالألوان في منتصف سبعينيات القرن الماضي. إلى هذا الحد والحياة لم تتغيَّر إلى دراسة الدكتوراه، التي اضطرتني إلى اقتناء جهاز الكمبيوتر الخاص بي. ولولا متطلبات كتابة رسالة الدكتوراه لما تجرَّأت حينها على اقتنائه.
من الصعب تذكُّر أيام الطفولة سوى من حنان وعطف الوالدين، لكن مرحلة المراهقة أتذكَّر كل تفاصيلها، كيف نقضي يومنا ما بين الدراسة واللعب والزيارات العائلية، فمازلت أحفظ أسماء عيال وبنات فريجنا والفرجان المجاورة لنا، بل أسماء لاعبي المنتخب والفنانين، كيف لا وعالمنا يعتمد على الحفظ وراحة البال.
هذه المقدِّمة لا تعني الدعوة إلى قطع علاقتنا مع برامج التواصل الاجتماعي ومواقع البحث، بقدر توجيهنا لما يخدم حياتنا الاجتماعية.
الحاجة إلى تعلُّم العالم الرقمي أصبحت ضرورة مُلحَّة تتسابق عليها الحكومات من أجل سرعة إنجاز وتوثيق المعاملات الإدارية والمالية، ومتابعتها، وتقييمها، ومراقبتها. كما تستخدمها المؤسسات التعليمية كأحد روافد المعرفة ومجالات العلوم الحياتية، ويُستفاد منها في عقد المؤتمرات والندوات والمحاضرات.
الحاجة لمنصات التواصل الاجتماعي لا تقف عند هذا الحد باعتبارها وسيلة متاحة تسمح للمغتربين عن أسرهم بالتواصل، وقد تكون ملاذاً للأشخاص الانطوائيين الذين يجدون ضالتهم في العالم الرقمي، فضلاً عن كونها أصبحت صوتاً للفئات المهمشة في عرض معاناتهم، وصور إثبات حيَّة ترصد الجرائم والمخالفات والتجاوزات على البيئة والممتلكات العامة.
من المشاهد التي تطفو على منصات التواصل الاجتماعي الأكثر إثارة للجدل والشفقة والسخرية معاً: ذلك الهوس الجماعي بتشريح الحالات النفسية عبر شاشات الهواتف، بعضهم يبحث عن الشهرة بأي ثمن، وبعضهم الآخر يبحث عن دموع وتعاطف رقمي زائف، بعرض مشاعره وحياته الشخصية على دائرة من المتابعين (وهمي وغير وهمي) للتحوُّل بعدها إلى مادة للسخرية تمس ذات الفرد ومَنْ حوله، ثم تأتي الفكرة بعد السكرة عندما تتحوَّل المعاناة إلى مجرَّد رقم في إحصاءات التفاعل.
اليوم لا يكاد أي فرد، فقيراً كان أو غنياً، لا يملك هاتف نقال محمَّلاً بمنصات التواصل الاجتماعي يتنقل فيما بينها وكأنه يملك الدنيا، من دون إدراك بأن تلك المواقع قد جرَّته إلى عالمها الافتراضي، حتى أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياته، إلا من أولئك الذين عرفوا كيف يُوازنون بين قيمة حياتهم الاجتماعية وبين ما تقدمه التكنولوجيا الرقمية من ترفيه ومعلومات وخدمات من دون أن تضر بعلاقاتهم الاجتماعية والصحية.