لم نُخلق لنركض طوال الوقت، لكننا حوّلنا الركض إلى طقسٍ يومي، وعبدنا القمّة حتى نسينا الطريق. نطالب أبناءنا بأن يكونوا «الأوائل»، ثم ننسى أن نسأل: ولِمَ أصل أصلاً؟ صار النجاحُ لافتةً على الجدار أكثر منه حياةً تُعاش، وصارت الدرجاتُ جواز عبورٍ إلى القَبول، لا جسراً إلى المعنى.نتباهى بالكؤوس اللامعة، ونتغافل عن الأكتاف التي حملتها. نرفع صورة «الإنجاز» إلى الواجهة، ونخفض الصوت حين ينهار أحدهم في الكواليس. هكذا تعلّم جيلٌ كامل أن يبتسم للمنصّة ويختنق بعيداً عنها؛ أن يختزل ذاته في رقمٍ يُرضي الآخرين ويخذل نفسه.لكن القصة ليست حدساً أدبياً فقط، فثمة ميتا-تحليلٍ واسع تتبّع تغيّر «الكمالية» عبر أجيال طلاب الجامعات بين 1989 و2016، ووجد أنها ازدادت خطياً في أبعادها الثلاثة: مطالب الذات، ومطالب الآخرين، ومطالبة الآخرين؛ أي أننا نرفع السقف على أنفسنا وعلى غيرنا بلا هوادة. هذا ليس ذوق عصرٍ عابر، بل اتجاهٌ تاريخي مُوثَّق.وحين تتحوّل «الكمالية» إلى هوية، تبدأ ملامح الاحتراق بالظهور: إنها تلك الحالة التي تصفها منظمة الصحة العالمية في تصنيف ICD-11: إنها ضغطٌ مهني مزمن غير مُدار، يتجسّد في الإنهاك، والابتعاد السلبي عن العمل، وتراجع الفاعلية. هي ليست تشخيصاً طبّياً، لكنها ظاهرةٌ مهنية تُطفئ المعنى ببطء.ولأن مدارسنا وجامعاتنا جزءٌ من هذه «المهننة» المبكّرة للحياة، تُظهر مراجعةٌ منهجية حديثة أن الضغط الأكاديمي يرتبط بوضوح بارتفاع أعراض القلق والاكتئاب وإيذاء الذات لدى اليافعين؛ 48 من أصل 52 دراسة وجدت هذا الارتباط. ليس كل تعبٍ بطولة؛ أحياناً يكون ناقوس خطر.بل إن تحليلاً عالمياً لطلاب الجامعات يشير إلى نسبٍ مرتفعة من أبعاد الاحتراق: إنهاكٌ عاطفي، تبلّد/سخرية، وإحساسٌ منخفض بالإنجاز؛ أرقامٌ ليست لتخويفنا، بل لتذكيرنا بأننا نحاسب الأرواح بمقاييس لوحات الشرف.ليس كل نجاحٍ مجيداً؛ بعضُ النجاح قناعٌ أنيق لتعبٍ مؤجّل.نربّي أبناءنا على الخوف من الرسوب أكثر من شغف التعلّم. نعطيهم شهاداتٍ مُعلّقة بإبرٍ دقيقة على الجدار، ونترك قلوباً مُعلّقة بأسئلة لا تجد جواباً. نطالبهم بأن يركضوا بلا توقّف؛ فإذا توقّفوا لحظةً لالتقاط أنفاسهم، اتّهمناهم بالكسل. كيف لا يحترق القلب، ونحن نطلب منه أن يضيء دوماً ولا ينطفئ أبداً؟النجاح الذي لا يمنحك وقتاً لتتأمل، ليس نجاحاً بل شكلٌ آخر من الاستنزاف. النجاح الذي يقتات على قلقك قناعٌ جميل لوجعٍ مؤجّل. هناك فرقٌ بين أن تصل لأنك نَضِجت، وأن تصل لأنك تخاف أن تتأخّر؛ الأول يبنيك، والثاني يستهلكك.لسنا هنا لننسف فكرة النجاح، بل لنستعيد إنسانيّتها: أن يعود طريقاً إلى الاكتمال، لا سلّماً بلا نهاية. أن نُدرك أن الخسارة جزءٌ من الوعي، وأن التوقّف مهارة، وأن البطء — أحياناً — سرعةٌ من نوعٍ آخر. عندها فقط، لن نحتاج إلى تصفيقٍ لنشعر أننا وصلنا.
Ad