كُنت أظن، بكل سذاجات البدايات، أن الضحك دليل على أننا بخير، فالناس لا يضحكون إلا إذا فرحت قلوبهم، حتى جاء هذا الموقف. كانت الأكثر مرحاً بين الصديقات. ما إن تجلس حتى يتحوَّل المكان إلى نوبات من الضحك والفكاهة، وفي مرة استأذنت لدقائق، وبالصدفة كُنت بقُربها. سقط منها شيء، التقطته بسرعة، كانت حبوب مضادة للاكتئاب، نظرت إليّ بفزع، فأدرت ظهري، كأنني لم أرَ، ولكن بداخلي شيئاً تغيَّر.
لم أعد أصدق الضحكات، وبدأت أحاول أن أشعر بها. غيَّرت سؤالي للمقرَّبين من: «شلونك؟» إلى: هل أنت سعيد؟ وبدأ السؤال يلح بداخلي، ما معنى السعادة؟ ثلاث سنوات وأنا أُطارد هذا السؤال في وجوه الناس، في الكُتب، وفي التفاصيل الصغيرة التي تكشف أكثر مما تخفي. سألت نفسي: هل السعادة حالة مؤقتة تنتهي عندما نحصل على ما نُريد؟ أم هي قناع اجتماعي نتقنه حتى لا يقلق مَنْ حولنا؟ أم هي مجرَّد وَهْم... سراب نركض خلفه من دون أن نلمسه؟
وحين كُنت أظن أن الإجابة تحتاج إلى حكيمٍ أو فيلسوف، وجدتها عند رجل مُشرَّد يجلس على الرصيف، ويغني. اقتربت منه، وسألته: هل أنت سعيد؟ ابتسم، وأجاب: السماء صافية، وأنا أتنفس، فكيف لا أكون سعيداً؟ لم يقل أملك، بل قال أتنفس، وهذا يكفي... لمن يفهم.
في تلك اللحظة أدركت أن السعادة ليست شيئاً نشتريه، ولا إنجازاً نعلّقه، ولا قائمة أُمنيات. السعادة هي شعور لحظي، لكن أصله الرضا، هو أن تعيش اللحظة بقلب راضٍ. وبدأت أرى البشر كما لم أرهم من قبل، حيث إن المشكلة ليست في الحياة، بل بقالب السعادة الذي فرضه العقل الجمعي، وهو وَهْم المقارنة، في ذلك الميل المؤذي لأن نقيس قلوبنا بما في أيدي الآخرين، أو نحمِّل أنفسنا ما لم يُكتب لنا، ولا أن نحاول إصلاح مسارات ليست لنا أصلاً، أو تغيير أقدار ليست جزءاً من حكايتنا، فكل إنسان طريقه، وكل منا لديه اختباراته ونِعمه وأرزاقه في هذه الحياة.
ثمة حقيقة في ذلك، أن السعادة شعور مؤقت، وليست حالة مثالية، ولا لحظة كاملة، إنها لحظة الرضا، أن تتصالح مع ما هو لك، أن ترى التفاصيل الصغيرة جداً، وحين يرضى القلب تتغيَّر الدنيا كلها، تُصبح التجربة الصعبة نعمة مؤجلة، وتصير اللحظة الناقصة جزءاً من حِكمة أكبر، وتغدو الحياة، رغم ازدحامها، أخف مما نظن.
وفي نهاية هذا البحث الطويل علمت أن السعادة ليست محطة ننزل عندها، بل هي الطريق نفسه، فهي تنبع من الرضا داخلك، وأن تؤمن بأن كل حُلو ومُر مكتوب لك، ولن يفوتك شيء، لأن الله عادل في عطاءاته بصورٍ مختلفة، مَنْ يرضى يسعد، ومَنْ يسعد يرى النور في أكثر اللحظات ظلاماً... هكذا فقط يُصبح الطريق إلى السعادة أقرب، وأكثر واقعية، وأكثر صِدقاً مع أنفسنا، ومع الحياة كما هي، لا كما نتوقع أن تكون.
السعادة ليست حدثاً كبيراً يغيِّر حياتنا، ولا لحظة نادرة تأتي ثم ترحل، السعادة، في حقيقتها، هي الرضا، أن نرى حِكمة الله في كل ما يحدث، حتى في الأشياء التي لا نفهمها بوقتها.