وقف للحظات يتطلع للجدار المتشقق وما حوله، نقر بأصبعه على جزء منه وصمت ثم قال بلغة هي خليط من الأوردو والعربي والإنكليزي، كحال معظم العمالة في الخليج، «مدام هذا أولد واجد أولد» ببعض التعود فهمت أن الجدران والأسقف قديمة وبحاجة لتغيير كامل. ولم يكتف بذلك، بل أضاف أن بعض القطع التي علينا تبديلها لا قطع غيار لها. «لا لا» ورددتها بالإنكليزية «نو نو»، وهذا منزل بذكريات لا تستطيع أن تغيره لا نبحث عن التغيير، بل بعض التعديل «بمعنى أن نزيل عوامل الزمن ونبقي على تفاصيله كما هي. هو بيت العائلة الذي يزيد عمره على الخمسين عاماً ذاك الرقم الذي صدم العامل القادم من شبه القارة الهندية في مقتبل عمره، ففي رأيه «الخمسين» يعني «عجوز» أو كبير. نظر إلى الجدران والأبواب والنوافذ وكأنها أشياء تجاوزها الزمن.
في تلك اللحظة تحرك شيء ما في صدري. يراه مجرد بيت عجوز، أما نحن فبالنسبة لنا هو منزل يمتلئ بالحب والذكريات. وقفتُ لأقول بحزم: «لا تغيير في أي شيء»، فكل قطعة هنا ليست حجراً أو قطعة خشب، هي ذاكرة. كل زاوية تحمل لحظة فرح، أو غصة حزن، أو ربما سرّاً صغيراً لا يعرفه إلا جدار قديم كان شاهداً علينا. الأثاث يعرف أصواتنا، والسلالم تحفظ وقع أقدام من غادروا ومن بقوا. بل وحتى الهواء بين الغرف يشبه كتاباً مفتوحاً صفحاته ليست من ورق، بل من أنفاسنا.
استيقظت من سهوي على صوته وهو يكرر «مدام لازم يغير» فابتسمت ربما بمرارة وتذكرت فجأة أن المنازل عند البعض كالبشر أو البني آدمين لها عمر أو سنوات تعبر أحياناً سريعة ثم ما تلبث أن ترحل، ولكنها، وهذا ما كنت أريد أن أفسره له ولم أعرف بأية لغة، لا تشيخ فلكل تجعيدة حكاية ولكل شق في الجدار ذكرى، بل إن كل المعالم التاريخية، كل الجوامع والبيوت والأسواق التي صمدت مئات السنين هي أكثر حياة من كثير من العمران الحديث والعمارات الشاهقة. كلها تحمل روح زمن بأكمله، وكل الذين مروا وتركوا بصماتهم فكيف نقول إنه «لا قطع غيار لها»، فلنرمها في النفايات؟
وفتحت أبواب الذكريات على مصاريعها ونحن نتحسس الجدران ونتفقد الزوايا وننتقل بين الصور، سمعت أصوات ضحكات قادمة من الغرفة التي كانت تتسع لكل العائلة، ورأيت الوجوه التي غابت، تتحرك في ذهني بخفة، وتعود لتجلس في أماكنها المعتادة. هناك، فوق تلك السجادة كان الأحفاد يلعبون، وقرب النافذة جلس يراقبهم بعينيه اللتين تعرفان كيف تضحكان وحدهما دون صوت!! في غرفة الطعام وأنا أرى بعض التشقق في الأرضية الخشبية عادت القصص التي حيكت وحكيت حول هذه المائدة.
كنا نتشارك أطباقاً من كل بيت، وكل عائلة تحضر ما تميزت به من طبخه، نسرد حكايات أيامنا وترتفع الأصوات حتى لا نسمع بعضنا البعض... مازالت هذه الجدران تخبئ صدى الأصوات والضحكات حتماً. البيوت لا تشيخ كما البشر لا يكبرون، بل يزدادون نضجاً وخبرة ربما، رونقاً وحيوية مختلفة، أردت أن أقول له أو أفهمه هو المقبل على الحياة، عليه أن يفهم أن المنازل لا تشيخ، بل هي مخازن للذاكرة، وهي الأماكن التي صنعت الحب، كثيراً منه، ولذلك فهي ليست بحاجة لقطع غيار فقط بل للمسة هنا وهناك فتنهض الضحكات والحكايات لتخرج في شكل صور من بين شقوق الجدران العتيقة، فتزهر وتعيد لها نضارتها.
كما أن البيوت التي تملؤها القلوب لا تهرم كما علمنا الرومي. العمر أو السنون ليست تقويماً على ورق، فكم من صغير أثقلته الشيخوخة المبكرة، وكم من كبير في السن ظل يمشي بخفة نورس لأن روحه ما زالت تحلق وتعشق كل تفصيل في الحياة. حاول هو أن يحرك بعض الأدوات أو قطع الأثاث ليحدث صوتاً أو بعض ضجيج، ربما فقط ليوقظني من ذاك السرحان أو الحلم الجميل، وقد نجح، فأسرعت بالقول اترك كل ما تستطيع، رمم الشقوق فقط، فهذا مسكن بحيوات كثيرة. أو كما يقول ابن عربي: «ليس البيت جدراناً، إنما هو موضع سكنى الروح».
* يُنشَر بالتزامن مع «الشروق» المصرية