لن تستطيع أن تبني مجتمعاً متطوراً متقدماً إلا إذا استثمرت في البحث العلمي، وبالأخص ذاك الذي يُعنى بالعلوم التطبيقية، وتنازلت عن فكرة أن إدارة البحث العلمي يجب أن تكون كتلك العلوم والفنون الإدارية (الكلاسيكية) التي تتناسب مع الوزارات والقطاعات الحكومية العادية، فالأكاديميون والباحثون يجب أن يكونوا أسياد قرارهم ومحاسبين على إنتاجهم العلمي ومؤشرات نجاحهم التي يجب أن تتناسب مع تلك الخاصة بطبيعة أعمالهم، وألا يحاسبوا بالطرق والنظرة التقليدية للوزارات والجهات الحكومية أو القانونية أو الاقتصادية وغيرها، فلكل مكان طابعه الخاص، كما أن لكل مقام مقال وهكذا دواليك، والجودة في البحث العلمي هي المقياس الحقيقي لتطور المجتمعات مع الزمن، بحيث تنتج تلك الأبحاث تقنيات وتكنولوجيا مع الزمن والتطوير وضخ الأموال عليها لتنتج لنا سوقاً تنافسياً عالي الجودة، يستطيع العلم أن يحل مشاكله الصناعية مع تسارع وتيرة الزمن.

ولهذا نجد أن أكبر الدول وأكثرها تطوراً حول العالم هي تلك التي تستثمر في الجامعات والمعاهد البحثية دون الانتظار أن تدر عليها عوائد بشكل مباشر، لأن العوائد المادية لها ستأتي مع الزمن ومع جودة الأبحاث والتقنيات المدروسة وهكذا، فإدارة الأبحاث تختلف تماماً عن إدارة الاستثمارات العادية في نظر الاقتصاديين وصناع القرار في أسواق المال وعلماء المحاسبة.

Ad

خرجت علينا أخيراً مجموعة إحصاءات جديدة، وجديرة بأن نتوقف عندها، للأبحاث والدعوم المادية لها والناتج العلمي من الدول في العالم بما فيها المنطقة، متزامنة كذلك مع أوراق وأبحاث تحليلية تشخيصية للناتج البحثي العالمي بالكم والكيف، ولأن تلك المؤشرات من المهم أن يتوقف عندها المرء ويفكر فيها جلياً، آثرت أن أتطرق لها بشيء من التوسع في مقالي هذا لعل وعسى أن يكون لبنةً وحجر زاوية في تغيير النهج التقليدي حول موضوع إدارة البحث العلمي، وكذلك العوائد الحقيقية منه، والتي لا تشترط أن تكون أموالا فقط (وهي ستأتي مع الزمن وجودة التطور في التقنيات المنبثقة من الأبحاث التطبيقية كما أسلفت)، لكن أيضاً على شاكلة بحر من العلوم والنتائج والتجارب والناتج العلمي الصرف الذي يخدم البشرية.

وعلى الرغم من أن العديد استغربوا من الخبر التالي فإنني شخصياً كنت قد توقعته منذ زمن، وهو اكتساح التنين الصيني لغزارة (وجودة الأبحاث) على مستوى العالم ككل، بحسب ما أوردته الصحف العالمية بشكل متوال في الأسابيع الأخيرة، فقد استثمرت الصين في الإنسان أولاً وهو الأساس كرأس مال بشري قبل أن يتم الاستثمار في البنيان وناطحات السحاب، فابتعثت ما يزيد على خمسة ملايين طالب وباحث إلى شتى دول العالم من عام 2000 إلى يومنا هذا لتجني ثمار ذاك الاستثمار البشري مع الزمن. إحصاءات عام 2000 تبين أن الصين كانت تنتج ما يقارب نصف الأبحاث العلمية على شاكلة أوراق محكمة مقارنة بالولايات المتحدة الأميركية، وذلك كما أوردت في مقال لها البروفيسورة كارولين واغنر من جامعة أوهايو، فانقلبت الآية وأصبح العالم بما فيه الولايات المتحدة يحسب حساب الصين اليوم ألف مرة، فللمرة الأولى عبر التاريخ تخطت الصين إحصاءات (الكم) مقارنة بالعالم والولايات المتحدة الأميركية التي كانت تتنافس معها وبشدة على المركز الأول عام 2017 وما زالت تتصدر أيضا في المركز الأول، ولكن الأمر اللافت للانتباه أن الصين الآن أصبحت تحتل المركز الأول على مستوى العالم من حيث جودة الناتج العلمي، والتي تشير إليها آخر الإحصاءات لصالح الصين، والتي تستند أيضاً إلى أكثر الأوراق العلمية اقتباسا كمؤشر لجودة الأوراق العلمية، فقد حازت الصين 8.422 ورقة علمية مقارنة بالولايات المتحدة الأميركية ب7.959 ورقة في 1% الأعلى اقتباساً على مستوى العالم، أما الاتحاد الأوروبي ككل فقد حاز 6.074 ورقة في المركز الثالث تباعاً من حيث الأوراق الأكثر جودة بالنسبة إلى الاستشهادات.

هذه الأرقام طبعا لا تقلل من جودة الأبحاث الأميركية والأوروبية، وليس الهدف هنا أن نقلل من هذا الناتج العلمي بتاتاً، بل على العكس الهدف هنا أن نسلط الضوء على مواقع ومراكز القوى العالمية، وكيف باتت تتغير مع الزمن من الجانب البحثي العلمي الصرف، فما زال في الغرب أبحاث عالية الجودة مؤثرة على حياتنا اليومية، كما أصبح كذلك للصين حظوة في هذا العالم البحثي يجب أن نتوقف عندها.

وعلى الصعيد الإقليمي الخليجي وبحسب آخر الدراسات في هذا المجال والناجمة عن دولة الإمارات العربية الشقيقة، نجد أن دولة قطر لم تستضف المونديال من فراغ، ولم تشهد تطورها إلا بعد إيمان تام بالعلم والتطوير، حيث تضاعف ناتجها البحثي في آخر خمسة وعشرين عاماً لأكثر من 77 ضعفاً مع احتلالها المركز الأول خليجيا من ناحية جودة الأبحاث العلمية.

تتراوح نسب الإنفاق على البحث العلمي ما بين 2 و3% من إجمالي الناتج القومي في أكبر الدول حول العالم، ونجد على صعيد المنطقة أن السعودية والإمارات هما الأكثر إنفاقا، إلا أن دولة قطر ما زالت تحتفظ بأرقام تميزها بالنسبة إلى حجم الدولة وحجم الإنفاق مقارنة بكم البحث العلمي وجودته، وكانت أرقام دولة الكويت متميزة لكنها بدأت بالتقهقر شيئا فشيئاً تزامنا مع إنفاقنا على الأبحاث العلمية بنسبة متوسطة تقدر ب0.1% من ناتجنا القومي فقط لا غير.

باختصار هذه النهاية تلخص أموراً عدة في الكويت، فقد كنا وكنا إلى أن أصبحنا وأصبحنا، وأتمنى أن يؤخذ من هذا المقال العبرة والعظة، وأن يرسم لنا طريقاً لقادم الأيام.