لكل نشاط اقتصادي، تجاري أو صناعي أو زراعي أو خدمي أو تطبيقات إلكترونية...، لكل نشاطٍ دوره الفاعل والمكمِل في المنظومة الاقتصادية للبلاد. وغياب أي نشاط أو تعطيله يؤدي إلى خسائر فادحة على الاقتصاد وعلى الدولة وعلى المواطن. هذه الخسائر تكون على شكل حرمان أهل البلد من السلعة أو الخدمة أو غياب جودتها أو غياب المنافسة فيها فيرتفع سعرها، وهي خسائر في الغالب تغيب عن العامة ويدركها أهل الخبرة والاختصاص.
في هذا المقال سنتطرق إلى بيان ماذا خسرت الكويت (اقتصادا وحكومة وشعبا) من التضييق على نشاط التطوير العقاري.
التطوير العقاري هو نشاط في مجال البناء لغرض البيع أو التأجير، حيث يقوم المطوِر بالتصميم والتمويل والبناء والتشغيل والصيانة والتسويق للمنتج العقاري (بيوت، شقق، مكاتب، محلات، مرافق، مدارس...) ويجعلها متاحة للبيع أو التأجير. ويأتي دور الحكومة في تشجيع هذا النشاط لتزداد المنافسة لتتوازن الأسعار، أي تكون منخفضة للمواطن ما يمكنه من الشراء، وبالحد الذي يحقق للمطوِر ربحا معقولا يمكنه من الاستمرار والتوسع. فوفرة المنتج والمنافسة يؤديان إلى الجودة مع انخفاض السعر وتعدد الخيارات.
التطوير العقاري نشِط في كل دول العالم، وهو الأداة الأكثر فعالية في التنمية العقارية ومحفز لكثير من الأنشطة الأخرى، وهو كذلك نشط في دول المنطقة، أما في الكويت فهو محدود لعدة أسباب، أهمها:
غياب سياسة الدولة الاقتصادية في تنشيط هذا القطاع وتحفيزه بالتشريعات والنظم، والحاصل في الواقع عكس ذلك، في منع المطور العقاري من الاستثمار في قطاع السكن الخاص (قانون 8 لسنة 2008)، الأمر الذي جعل التطوير العقاري في قطاع السكن الخاص حكرا على الأفراد بمعدلات محدودة جدا.
وحتى صدور القانون كانت الشركات أمثال الراجان وبيت التمويل ومركز سلطان وأسيكو وغلوبال وغيرهم يشترون الأراضي الكبيرة ويقسمونها ويبنون البيوت وتباع بأسعار معقولة، تقل عن 120 ألف د.ك شامل الأرض.
ارتفاع أسعار الأراضي، مما جعل تكلفة الأرض تشكل نحو ثلاثة أرباع تكلفة التطوير، وهذا يُوجد عبئا ماليا كبيرا على المشاريع، وينعكس على شكل تكلفة عالية على المواطن، مما يقلص السوق ويضغط على الأرباح المحققة من التطوير.
ندرة الأراضي المتاحة للتطوير لدى القطاع الخاص، وذلك لاحتكار الدولة لمعظم الأراضي المتاحة وخصوصا السكنية والصناعية والخدمية، ولا توجد آلية فعالة للبيع أو التخصيص أو الاستثمار، الأمر الذي فتح أبواب الفساد للتحايل للحصول على الأراضي لإعادة بيعها، كالمشاريع الصناعية الوهمية، والمبادرات المرتبطة بفساد للاستيلاء على أراضٍ ثمينة لإعادة بيعها، وفي ذاكرة المتابعين نماذج كثيرة.
ومما عطل التطوير العقاري هو الفهم الخاطئ «للمطور العقاري» و«للخصخصة» و«للقطاع الخاص»، الفهم الخاطئ الذي صنعه سياسيون لغرض تثبيت مكاسبهم السياسية وتصفية الحسابات مع خصومهم، الأمر الذي أوجد قناعة عامة «مضللة» مكنت من إصدار قوانين ونظم تشل الاقتصاد، وللأسف تبنت ذلك بعض الحكومات السابقة واستجابت في الموافقة وإصدار قوانين معطلة للاقتصاد، كقانون الشراكة وأملاك الدولة والخصخصة ومنع المطور العقاري عن التملك في السكني وقوانين الإسكان وغيرها كثير.
هذه الأمور مجتمعة أدت إلى محدودية فرص التطوير العقاري في الكويت، فانخفض العرض فارتفعت الأسعار (بيعا أو تأجيرا) بما يفوق قدرة المواطن على الشراء السكني، وبما يُفشِل كثيرا من المشاريع الصناعية والتجارية والخدمية.
فماذا خسرت الكويت من محدودية فرص التطوير العقاري؟ سأجيب هنا عن اثنين من أهم المحاور (السكن الخاص، الصناعة):
السكن الخاص: مجمل قوانين الإسكان في الكويت مبنية على الرعاية الكاملة من الدولة (الأرض، التمويل، التنفيذ، الخدمات، الكهرباء والماء ومعالجة الصرف الصحي... إلخ)، وكانت تكلفة كل ذلك في استطاعة الدولة عند بداية نشأتها. ولكن مع تطور عدد السكان الذي كان ينمو بمعدل يفوق معدل نمو الدخل، ومع التضخم التراكمي، أصبحت الدولة منذ أكثر من 35 عاما في حالة عجز عن تلبية كل هذه المتطلبات. فبدلا من المبادرة آنذاك واستحداث حل متوازن للقضية الإسكانية، أي متوازن التكاليف، توجه السياسيون وتبعتهم الحكومة (للأسف) بتعديلات قانونية تزيد من الالتزامات وتعمق العجز في تلبية الطلبات، وكأنهم بانتظار معجزة سماوية لحل القضية الإسكانية. والنتيجة: اليوم انتظار يفوق ال 20 سنة، وقائمة انتظار بها نحو 140 ألف أسرة.
وكان الأولى اللجوء إلى المطور العقاري منذ بداية عجز الحكومة آنذاك، ورغم ذلك فاليوم الأمر قابل للاستدراك، فمن خلال التطوير العقاري من الممكن توفير بيت جاهز للسكن تسليم مفتاح بتكلفة نحو 100 ألف د.ك على المواطن، وبترتيب تمويل من البنوك المحلية بنسبة مرابحة 3٪ مثلا يكون القسط 420 شهريا لمدة 30 سنة، وهذا أقل من الإيجار، وهو سداد لملك في بيت كامل وليس إيجار شقة أو دور. وأقصد هنا قسيمة 400 م2 من الدولة وبناء سرداب كامل غير مشطب، وبناء دور كامل ونصف مع أعمدة وجسور مصممة قابلة للتوسع المستقبلي وبتشطيب «مناسب». وللعلم آخر ثلاث مشاريع بناء بيوت لدى مؤسسة الإسكان كان بعدد إجمالي 1700 بيت بتكلفة نحو 97 ألف د.ك شامل البناء والتكييف والتشطيب مع الخدمات الملحقة بالبيت.
الآن ممكن الاستدراك عن طريق التوسع في فتح فرص للمطورين العقاريين للمنافسة بالسعر والمواصفات على شكل مشاريع متعددة بحجم متوسط «محقق» للمنافسة، وليس لمشاريع عملاقة «مدن» تكون حكرا للشركات الكبرى وتغيب عنها المنافسة.
الصناعة: إن من أهم ما أفشل الصناعات الصغيرة والمتوسطة في الكويت هو تخصيص قسيمة صناعية، حيث تتزاحم الطلبات، وكثير منها طلبات وهمية بهدف الحصول على القسيمة الصناعية الثمينة لغرض بيعها. وكذلك المستثمر الصناعي الجاد سيكتشف لاحقا أن بيع المصنع (الجمل بما حمل) يحقق له عائدا أفضل من الصناعة وبلا تشغيل ولا إدارة ولا ديون. ومع المعوقات الصناعية والحكومية وضيق السوق ينتهي به المطاف لبيع المصنع بثمن حق الانتفاع بالقسيمة.
ولو اتجهت الدولة إلى المطور العقاري لبناء وحدات صناعية تؤجر للمستثمرين الصناعيين دون حق للمستثمر الصناعي إلا في المعدات المنقولة، وليس له حق في التنازل للغير، سيتحقق للمستثمرين الصناعيين الجادين وحدات مبنية وجاهزة بإيجار معقول يمكنه من سرعة التشغيل والبيع دون أن تكون له حقوق في القسيمة ولا البناء. وفي حالة فشل المشروع يُسلم للهيئة لتؤجره للمستحق حسب الدور.
هذه الفوائد تمتد إلى القطاع التعليمي والصحي وسكن العمال والمشاريع الصغيرة ومختلف مباني الحكومة على اختلافها.
والحمد لله رب العالمين.