تعود قصة هذا المثل اليمني الشهير إلى حادثةٍ أوردها القاضي إسماعيل الأكوع في كتابه الشهير (الأمثال اليمانية)، وفحواها: أن طرفين من القبائل اليمنية القوية دُعيا لحماية القوافل التجارية، لكن الغيرة أحدثت فعلها بين هذين الطَّرفين، ودار الجدال، واحتدم الخلاف، ليصل بهما المقام إلى كُمون أحدهما للآخر في منتصف الطَّريق، وعند وصوله إلى هذا الكمين، بادر الطَّرف الأول للقول بهذا المثل: «جِيْدْ يِسْلِمْ جِيْدْ»، أي كريمٌ يترك كريماً سالماً، لكن الطَّرف الآخر ردَّ عليه بما هو أقبح، حيث قال: «مَا جِيْدْ يِبْقَى لِيَوْمْ تَالِي!»، أي ينبغي ألا يبقى أحد منا حياً إلى يومٍ آخر، فدار القتال بين هذين الطَّرفين حتى فني معظمهما.
وما ذكَّرني بهذا المثل وهذه القصة، هو واقع حال اليمن الضائع بين أطرافه المتحاربة والمتصارعة، والذين تجاوزوا كل المصطلحات والأحاديث في طول وتباين صراعهما، المستمر منذ أكثر من 15 عاماً.
وقد يتساءل امرؤ ما: لماذا أُعيد الصراع اليمني إلى عام 2011م؟ أي إلى قبل اندلاع الحرب الأهلية.
السبب واضح، حيث الأطماع السياسية، والطموحات الحزبية، والولاءات المناطقية. ولعل الأخطر من ذلك كله، التبعية الطائفية، تمثل جميعها داء اليمن، وليست دواءه بالمرَّة!
فهي التي أوصلته إلى هذه الحالة البائسة، بلاد مشتتة وممزقة، تُنتهك فيها كل الحُرمات الآدمية والإنسانية، من قتل وجرح وخطف وتعذيب وتنكيل ومهانة، يُذلُّ فيها الشريف، ويُهان فيها العزيز، وينعدم فيها كيان الدولة الجامع. كما انعدمت فيها أيضاً أي مظاهر لنهضة أو أي آفاق لتطور، أو أي بصيص أملٍ لاستشراف المستقبل، بل أصبح اليمن مُسمَّى فضفاضاً انعدم وجوده على أرض الواقع. فالدولة فيه لم يعد السَّعي للوصول إلى قيادتها مغرماً أو منهجاً للبناء والتعمير، بل لم تعد حتى مطمعاً أو مغنماً بحد ذاته، بل أصبح حالها أبعد من ذلك بكثير وأشنع. أصبح هذا الوطن أقطوعة مقطعة بيد كل طرفٍ جزء منه، فتصارعت الأطماع، وتنازعت الأيديولوجيات، وبيعت البلاد كلها في سوق النخاسة والعمالة، ومن دون ثمن، وبلا ثمن!
ولعل الكارثة الطَّهماء والمصيبة العصماء، أن كل واحدٍ من تلك الأطراف الطامعة والطمَّاعة، تدَّعي وصلاً بليلى! بينما اليمن كله ضائع ومفتت ومشتت، ويكاد يكون مندثراً. فمَنْ يتابع ما هو عليه الحال في هذا البلد، الذي كان سعيداً في قديم الأزمان، أصبح غير سعيد في حاضر الأيام، بل صار مكلوماً مثقلاً بالجراحات والآلام التي لم ولن تندمل إلا بشيءٍ واحد، هو أن يصل أطراف الصراع أو النزاع، أو سموهم ما شئتم، إلى حقيقة واحدة ثابتة، أن اليمن وطن لجميع أبنائه، لأحزابه وطوائفه، وألا يجب التفريط فيه، لأي سببٍ كان، فلا مكان للأطماع ولا للطموحات، ولا للولاءات، ولا للتبعية... وغيرها. ولكن هيهات وشتان أن يصلوا إلى هذا الأمر، فما داموا في غيهم وسباتهم سائرون وسادرون سيظل المثل اليمني: «جِيْدْ يِسْلِمْ جِيْدْ» هو عنوان المرحلة، وسنديان الرحلة.
بينما لو طبقوه بالطريقة الصحيحة، وأيقنوا أن الأخ يتنازل لأخيه، ويتصالح معه، وتركوا الاغترار بالعدد والعُدَّة التي يمتلكونها، لأمكن لهم بناء وطن حُر مستقل ينهض من جنوب الجزيرة العربية ليُلاقي الأمم العالمية في جميع أركان الأرض.
*صحافي يمني