«هاي صدك تحجين؟»، هذه الكلمة قُلتها بدعابة لزميلتي الباحثة العراقية وهي تشرح لي، بحماس يُشبه الفخر، مشروع زراعة المانغروف في البصرة. كُنت أسمع عن المانغروف في قطر والسعودية والإمارات، لكنني لم أتخيَّل يوماً أن أسمع أنها تُزرع في العراق! ضحكت، وقالت بثقة: «إي صدك، بالعراق، وبالبصرة تحديداً، وراح نزرع ملايين منها».

تأملت كلامها، وشعرت كأن البصرة، المدينة التي لطالما سمعت عن خُضرتها ونخيلها منذ القِدم، ها هي تستعيد اليوم روحها من جديد، مشروع زراعة المانغروف ليس مجرَّد فكرة بيئية، لكنه عمل وطني وإنساني يُعيد الحياة لجنوب العراق، لمدينة أنهكتها المُلوحة والتلوث.

Ad

«عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحر... أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر» بيت شاكر السيّاب، مر بذهني وأنا أسمع عن المشروع، فالبصرة التي كتب عنها شاعرها الكبير تعود اليوم لتلبس خُضرتها مجدداً، بخطةٍ طموحة لزراعة 11 مليون شتلة مانغروف على امتداد شط العرب وخور الزبير ورأس البيشة خلال السنوات المقبلة.

المبادرة بدأت رسمياً عام 2023، بتعاون بين برنامج الأغذية العالمي (WFP) ووزارة البيئة العراقية والحكومة المحلية في البصرة، وبإشرافٍ علمي من مركز علوم البحار في جامعة البصرة، وقد أُنشئ مشتل خاص لإنتاج نحو مليون شتلة مانغروف سنوياً، ضمن خطة بيئية متكاملة لإعادة تأهيل السواحل العراقية.

المانغروف شجرة بحرية تُزرع في المياه المالحة، وهي منتشرة طبيعياً بدول الخليج، مثل: قطر، والإمارات، والسعودية، لكنها تُزرع للمرة الأولى على نطاقٍ واسع في العراق. وتكمن أهميتها البيئية الكبرى، في أنها تمتص كميات ضخمة من الكربون، وتحدُّ من تآكل السواحل، وتوفِّر موائل طبيعية للأسماك والطيور. وبنجاح هذا المشروع، فإنه يعني استعادة التوازن البيئي في الجنوب، وعودة التنوُّع الطبيعي الذي فقدته المنطقة لعقود.

لكن المشروع لا يقتصر على الجانب البيئي فقط، بل يفتح فرصاً اقتصادية واجتماعية كبيرة، إذ يوفر فرص عملٍ للشباب، ويُشجع على المشاركة المجتمعية، ويمهِّد لتطوير السياحة البيئية في البصرة، كما يمنح العراق فرصة الدخول في أسواق الاعتمادات الكربونية العالمية، وهو مورد اقتصادي متجدد يُسهم في دعم التنمية المستدامة.

ورغم التحديات التي تواجه التنفيذ، مثل: ارتفاع نسبة المُلوحة، وصعوبة إدارة التيارات المائية، فإن النتائج الأولية تُظهر نجاحاً مشجعاً، حيث تجاوزت نسبة بقاء الشتلات 40 في المئة ببعض المناطق. ومع استمرار الدعم الفني والعلمي، يُتوقّع أن تتحوَّل سواحل البصرة خلال السنوات المقبلة إلى نموذج بيئي متميز في الخليج العربي، يثبت أن العراق قادر على الريادة البيئية، كما كان رائداً في الزراعة عبر تاريخه.

مشروع المانغروف في البصرة ليس مجرَّد زراعة أشجار، بل زراعة وعي وأمل، وهو بداية جديدة تُعيد الثقة بأن العراق قادر على استعادة خُضرته إذا جمع بين العلم والإرادة، وأن الجنوب يمكن أن يكون بوابة العراق نحو مستقبلٍ بيئي أكثر استدامة.

البصرة اليوم لا تنتظر المعجزات، بل تصنعها بأيدي أبنائها.

وكما يقول المثل العراقي: «البصرة مثل العروس، كل يوم إلها زينة»، واليوم زينتها خضراء، من شط العرب إلى البحر، من المُلوحة إلى الحياة، وأي مشروعٍ علمي وبيئي تقوم به دولة عربية يدعو للفخر والاعتزاز، فما بالك إذا كانت الجارة. 

تمنياتنا بالتوفيق لهم بهذا المشروع المهم.

*يُنشر بالتزامن مع صحيفتَي الزمان العراقية والشرق القطرية