«إلى أين؟»، سؤال يتردَّد عند كل مفترق حرج يواجه العالم، وقد بات أكثر إلحاحاً مع كل صراع دامٍ أو أزمة تهز النظام العالمي وتُعيد ترتيب أولوياته. فقد تبيَّن، منذ تفشي جائحة كورونا، مروراً بأزمات الطاقة والأمن الغذائي وموجات التضخم العالمي التي توجدها النزاعات الكبرى، وآخرها الحرب الروسية- الأوكرانية، أن القواعد التي قامت عليها العولمة في العقود الأخيرة لم تعد قادرة على الصمود أمام التحوُّلات الطارئة والمخاطر المتسارعة.

لقد عرَّت هذه الأزمات المتراكمة هشاشة المنظومة العالمية التي قامت على تحرير الأسواق، وفتح الحدود، وربط الاقتصادات بسلاسل إمداد عابرة للقارات. وعند أول تهديد، انغلقت الدول على ذاتها، وأعادت ترتيب أولويات صادراتها، وبدأت بحجز مواردها الحيوية.

Ad

قد يبدو للبعض أن العولمة لم تعد في هذا السياق مشروعاً تضامنياً، بل أصبحت عبئاً على الدول الأقل قدرة والأضعف بنية، والتي عادة ما تجد نفسها مكشوفة في وجه الأعاصير، كما لم يعد الانكفاء على الذات قراراً أيديولوجياً بقدر ما أصبح ضرورة وجودية، فالدول التي سبقت إلى بناء منظومات إنتاج محلية قوية وتخزين استراتيجي للغذاء والطاقة، ظهرت أكثر تماسكاً، فيما اضطرت أخرى إلى تقليص اعتمادها على الخارج لدواعٍ وجودية.

الدول العربية، بحُكم موقعها في الاقتصاد العالمي واعتمادها الكبير على الاستيراد، تشعر بثقلٍ هذه التحوُّلات أكثر من غيرها. فمع كل اضطراب في سلاسل الإمداد أو ارتفاع مفاجئ في الأسعار، تنعكس النتائج مباشرة على معيشة الناس، من الخبز إلى الوقود إلى الدواء، مما يكشف عُمق الخلل في النماذج الاقتصادية المعتمدة، التي تهمل الزراعة والصناعة، وتركِّز على الريع والخدمات.

إزاء هذا الواقع، تتعاظم الحاجة إلى إعادة الاعتبار لفكرة «الاكتفاء الذاتي»، ليس كخيارٍ ترفي، بل كضرورة استراتيجية سيادية، تحفز البحث عن شبكة أمان تضمن استمرارية الحياة في أوقات الشدة بقدرٍ وافر من الكفاية في الغذاء والطاقة والصحة، بما يجنِّب الارتهان المُطلق للمتغيِّرات الدولية.

في هذا الإطار، يمكن للدول العربية أن تُعيد توجيه سياساتها التنموية نحو دعم الزراعة الحديثة، والصناعات التحويلية، والطاقة المستدامة، ودمج التكنولوجيا في تأمين الموارد الأساسية، مع تعزيز أدوار السُّلطات المحلية في التخطيط والتنفيذ.

الاستجابة السريعة للأزمات تبدأ من القاعدة، من البلديات والمجتمعات المحلية التي تُلامس نبض الواقع، وتفهم خصوصياته، لا من مراكز القرار المركزية فحسب. 

من هنا تبرز أهمية اللامركزية الإدارية كأداة حيوية لتعزيز الجاهزية، وتحقيق العدالة في توزيع الموارد، وضمان فاعلية الأداء في مواجهة الأزمات الصحية أو الغذائية أو الطاقوية، لكن هذه اللامركزية لا تُفهم بوصفها تفويضاً مطلقاً، بل كإطار رشيد يقوم على التوازن بين الصلاحيات والمساءلة. فحين تمتلك السُّلطات المحلية الاستقلال المالي والإداري، ويُربط ذلك برقابة شعبية ومؤسسية فعَّالة، تتعزز قُدرتها على التخطيط والاستجابة والتطوير.

ما عاد ممكناً التعويل على العولمة كما عرفناها، ولا الركون إلى التبادل الحُر كمصدر أمان، فالتعاون الدولي لن يُلغى، لكن يجب أن يُعاد تشكيله على أُسس أكثر واقعية، تراعي المصالح الوطنية لكل دولة. أما رهان نهوضنا في العالم العربي، فلن يكون باجترار وصفات مكرَّرة، بل بإعادة بناء اقتصادٍ ذاتي، وتحقيق أمن غذائي وطبي وطاقي، بحيث لا نظل أسرى لتقلبات وضغوط لا نملك مفاتيح التحكم بها.

* كاتب ومستشار قانوني