يشهد العالم اليوم ثورة علمية في مجال الطب الجينومي، حيث تتجه الدول إلى بناء برامج وطنية شاملة تهدف إلى فهم الأساس الوراثي للأمراض، ووضع حلول دقيقة للوقاية والعلاج. 

وهنا تبرز دول مجلس التعاون الخليجي كقوة علمية واعدة تمتلك من المقومات ما يجعلها مؤهلة لتكون في صدارة هذا المجال، شريطة أن يتحقق التعاون والتكامل بين برامجها الوطنية للجينوم.

إن التعاون بين دول الخليج في مجال أبحاث الجينوم ليس خياراً، بل ضرورة استراتيجية. فالدول الخليجية تمتلك بنية تحتية صحية وبحثية متميزة، تتفوق في جوانب عدة على مثيلاتها في بعض المراكز البحثية الرائدة حول العالم. المختبرات المتقدمة، والكوادر المؤهلة، والدعم الحكومي المستمر، كلها تشكِّل قاعدة صلبة لبناء نهضة علمية حقيقية. ومع ذلك، فإن الريادة لا تتحقق فقط بتوافر الموارد، بل بتوحيد الجهود، وتبادل الخبرات والمعطيات العلمية بين المراكز الخليجية المختلفة.

Ad

الجانب الآخر الذي يمنح دول الخليج ميزة فريدة، هو تشابهها السكاني والاجتماعي. فالشعوب الخليجية تتقاسم خلفية وراثية متقاربة، وظروفاً بيئية وعادات حياتية شبه متطابقة، مما يجعلها أرضاً خصبة للأبحاث الجينية الدقيقة على مستوى السكان. ومن هذا المنطلق، فإن التعاون بين دول الخليج سيُتيح إنشاء قاعدة بيانات خليجية موحَّدة يمكن أن تكون نموذجاً عالمياً في فهم العلاقة بين الجينات والبيئة في منطقتنا.

المؤسسات البحثية الرائدة في المنطقة، مثل معهد دسمان للسكري الذي أنشأته مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، وسدرة للطب في قطر، وجامعة محمد بن راشد للعلوم الطبية في دبي، تشكل أعمدة رئيسية في هذا المشهد العلمي. هذه المراكز تمتلك الكفاءات والخبرات والتقنيات الحديثة، لكنها بحاجة إلى مظلة مشتركة تنظم التعاون بينها، وتمنحها الدعم الحكومي والسياسي اللازم لتعزيز التكامل العلمي، بدلاً من تكرار الجهود في مسارات متوازية.

ولعل ورشة العمل حول الطب الدقيق التي نظمتها مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، بالتعاون مع الأكاديميات الوطنية الأميركية للعلوم، مثال حي على أهمية التعاون العلمي الإقليمي والدولي. هذه الورشة التي ترأسها الدكتور سلمان الصباح من الكويت، والدكتور فواز حاج من جامعة كاليفورنيا ديفز، جمعت نُخبة من العلماء والمختصين من مختلف دول الخليج ونظرائهم من الولايات المتحدة. وقد ساهمت في تعزيز جسور التواصل العلمي، ليس فقط بين الخليج والغرب، بل أيضاً بين دول المنطقة نفسها، إذ شهدت مشاركة فاعلة من باحثين من قطر وسلطنة عمان إلى جانب زملائهم من الكويت.

كما أن الزيارات العلمية المتبادلة بين الوفود البحثية الخليجية، مثل التعاون المستمر بين الكويت وقطر، تمثل خطوة بالاتجاه الصحيح نحو بناء شراكات مستدامة. هذه التحرُّكات لا تقتصر على تبادل الخبرات، بل تُسهم في خلق لغة علمية مشتركة، وتعزز التكامل في البحوث السكانية والوراثية، وتسرِّع من الوصول إلى نتائج تخدم صحة الإنسان الخليجي والعربي على حدٍّ سواء.

في نهاية المطاف، تمتلك دول الخليج كل المقومات اللازمة للريادة العالمية في أبحاث الجينوم: رأس المال البشري المؤهل، والبنية التحتية البحثية المتقدمة، والموارد المالية الكافية. ما ينقصنا فقط هو الإرادة المشتركة لتوحيد الجهود وتكامل المشاريع. فالتعاون ليس ترفاً علمياً، بل هو السبيل الوحيد لتحويل ما نملكه من إمكانيات إلى إنجازات ملموسة تضع منطقتنا في مصاف المراكز العالمية للبحث الجينومي والطب الدقيق. 

الريادة قادمة لا محالة، لكن طريقها يمر عبر التكامل الخليجي.