لم تكن الصحافة يوماً مجرَّد وسيلة لنقل الأخبار أو سرد الوقائع اليومية، بل أداة حيوية للمساءلة والرقابة العامة، وصمام أمان لحماية المجتمعات من تضليل المعلومة وتغوُّل الفساد وضعف الشفافية.
في هذا السياق، تمثل الصحافة الاستقصائية أحد أهم أركان الممارسة الصحافية الحديثة، لأنها تتجاوز سطح الحدث إلى ما وراءه، لتفكك بنيته، وتفحص أسبابه، وتُعيد صياغة الأسئلة التي يخشى كثيرون طرحها.
في المشهد الخليجي، حيث شهدت وسائل الإعلام طفرة في الشكل والمحتوى، لا تزال الصحافة الاستقصائية غائبة إلى حدٍّ كبير عن الممارسة اليومية. والسبب لا يكمن فقط في القيود القانونية أو حساسية القضايا، بل في ثقافة إعلامية ترسخت لعقود ترى في الخبر النهائي منتجاً مكتملاً، وليس نقطة انطلاق نحو معرفة أعمق.
فالتحقيق الاستقصائي يتطلب بيئة مهنية تحتضن البحث الطويل، وتوفر الحماية القانونية للصحافي، وتؤمن بأن كشف الحقيقة ليس فعل تحدٍّ، بل هو واجب وطني.
الكويت يمكن أن تكون نموذجاً ملهماً في هذا الاتجاه، فهي تمتلك تاريخاً صحافياً عريقاً، ومناخاً من الحُرية النسبية مكَّنها من إنتاج صحافة نقدية منذ الستينيات، لكن هذا الإرث بحاجة إلى تجديد في الأدوات والأساليب. فحين تُنشئ المؤسسات الإعلامية الكويتية وحدات استقصائية محترفة، وتُدرج هذا النوع من العمل ضمن برامجها التدريبية، ستكون قد فتحت باباً جديداً من المهنية يُعيد تعريف الدور الاجتماعي للصحافة.
الصحافة الاستقصائية ليست صحافة المواجهة ولا الإثارة، بل هي صحافة معرفة ومساءلة، فهي تقوم على البحث في الوثائق، وتتبع مسارات المال العام، وتحليل القرارات والسياسات من منظور الأثر على الناس. هي جهد طويل يتطلب صبراً ومهارة وتوازناً بين الجرأة والمسؤولية. لذلك، فهي مرآة لمدى نضج المؤسسات الإعلامية، كما أنها مؤشر على ثقة الدولة والمجتمع بالإعلام كجزء من منظومة الإصلاح.
وفي زمن يتضخم المحتوى السريع وتتنافس المنصات في سباق السرعة، تظل الصحافة الاستقصائية دعوة للعودة إلى الجوهر، والمعلومة الدقيقة، والبحث الجاد، والإنصات لصوت الناس، لا صدى التصريحات.
إن إدخال هذا النمط من العمل في المؤسسات الخليجية ليس رفاهية مهنية، بل استثمار في وعي المجتمع وأمنه واستقراره. فحين تتبنى الكويت ودول الخليج فكرة الصحافة الاستقصائية وتوفر لها البيئة القانونية والمؤسسية، ستكون قد وضعت لبنة أساسية في بناء إعلام مسؤول يُواكب تطلعات الناس، ويصون الحقيقة من التلاعب. عندها فقط يمكن القول إن الصحافة لم تعد تروي ما حدث فحسب، بل تفسر لماذا حدث، ولمن، وبأي ثمن.