كل كائن منذ لحظة تكوينه هو في طريقه إلى الموت، والحياة والموت وجهان لعملة واحدة، بأيام الشباب ننسى النهاية، نلتهي بالحياة، ننشغل بقضايا الدنيا، سعي متواصل نحو الفرح، نعشق ونحب، نكابد الشوق ونغرق ونتوه بلحن أغاني الحب، نتخيل أنها تتحدث عنا فقط، نعب بشراهة من كؤوس الملذات، نجرى خلف كل لحظة فرح، نرى الدنيا كطريق مفتوح بلا نهاية، كنا نحيا كأبطال أساطير إغريقية بعالم دون نهايات.

 تجري السنون بأكوان بلا نهاية ولا بداية، وندرك شيئاً فشيئاً، مع الأمراض التي تزورنا دون مناسبة، أن ساعة الوداع اقتربت، وفي لحظة، لا نعرف متى تحدث، نصبح ذكرى، ويقول الأحياء عنا «الله يرحمهم» وكان يا ما كان، لا تدري ماذا يقولون خيراً أم شراً، فأنت غير موجود... قبلها كانت أمنيتك ألا تتأذى وتتألم حين تخطو صعوداً على سلم طائرة النهاية مردداً بلا كلل عبارة الأجداد والجدات «يا رب من حيلي لقبيري».

لم يتحقق لفوزي ذلك الدعاء، تألم طويلاً ولسنوات بمرض لعين، عزل عقله عن جسده، رغم ذلك ظل عقله واعياً، وقلبه ينبض بروح الأمل وحب الحياة، يتابع بعناد وصبر كل صغيرة وكبيرة حوله، لا يستطيع أن يحرك إصبعاً واحداً في يده ليبعد حشرة حطت على كفه، كان أسيراً لجسد انتهى أمره وخانه، كما يخوننا الزمن.

Ad

هل هذا فوزي الذي زرته قبل فترة بالمستشفى وهو محاط بأجهزة مخيفة موصولة بأنابيب دقيقة وتنتهي بإبر مغروسة في جسده، فتحة بالعنق، فتحات أخرى بكل مكان بجسد منهك ضعيف نهشه المرض، أنابيب تعينه على الاستمرار بالحياة؟ أي حياة تعيسة هذه؟ وأي معنى خاوٍ لها؟ عذاب وألم لا لسبب إلا الرضوخ لقوانين طبية مستبدة.

هل هذا فوزي؟ كان آلة بشرية تعمل على مدار الساعة في المقاولات، في مشاريع بناء واستثمارات بعضها ناجح وبعضها غير موفق، لكنها لا تفت من عضده، ولا يستسلم لليأس، ربما كان قاسياً أحياناً مثلما كان طيباً رحيماً في أحايين، يعطي بصمت لأعمال الخير، يختلف معه كثيرون مثلما يتفق معه أيضاً كثيرون، لكنه يظل فوزى الذي كان يزور جده في ذلك الحوش العربي القديم حاملاً «مطارة» – مرطبان - لها فوهة واسعة تغلق بغطاء من الألمنيوم والفلين كأنها مدفع يقبع في سيف الطوب، بداخلها أكل غريب... بارد لذيذ... لا نعرفه... يسمونه دندرمه «إسكيمو» صناعة وطنية جديدة يتركها الجد الكبير ولا يقترب من نقصه ابنته الكبرى شيخة لوالدها لتنتهي في جوف أصغر أبنائه خال فوزي فقد تمت مصادرتها للمصلحة الخاصة.

رحل فوزي، انتهى عذابه الطويل، لم يكن بحاجة إليه، هذا كان قدره، لا نفهمه ولا نفهم قدر أي كائن.