هل فكرنا يوماً كيف لحرف أن يفصل معنيين متضادين يعكسان جانبين متباينين من طبيعة الإنسان، ولكلٍّ منهما أثره في العلاقات والسلوك والتعامل مع أفراد المجتمع؟ فحرف السين إذا ما أضيف إلى الأنانية حولها إلى إنسانية.
فالإنسانية كلمة تحمل في ثناياها جوهر الرحمة والتعاطف والإحساس بالآخرين ومشاركتهم آلامهم وآمالهم، ومد يد الخير دون انتظار لمقابل. فتلك الأحاسيس الصادقة والأعمال الخالصة النية تجعلنا جزءا من مجتمع متكامل، يعزز قيم التعاون والعدل والاحترام المتبادل. فهي الضوء الذي يبدّد ظلام الأنانية. فما أجمل أن تمد يديك لا لتأخذ، بل لتساند وتعاضد وتربت وتشعر وتعبر. وما أجمل أن ترى في فرح الآخرين امتداداً لفرحك، وفي مداواتهم لآلامهم راحة لقلبك.
وتلك السين إن تجردت من الإنسانية تحولت إلى أنانية، وهي تغليب المصلحة الشخصية للفرد على مصلحة الآخرين. هي سلاح شرس قد يدفع بالفرد إلى استغلال الفرص أو تجاهل معاناة الغير، مما يؤدي إلى تفكك الروابط الاجتماعية وضعف روح التضامن وعدم الإحساس بالآخرين.
فبداخل كل إنسان نزعتان تتنازعان داخله: نزعة الأنانية التي تدفعه لحماية مصالحه والتفكير بنفسه، ونزعة الإنسانية التي تهمس له بأن سعادته لا تكتمل إلا بسعادة غيره وبتفضيلهم على نفسه. وبين هذين القطبين يتشكل وجه الإنسان الحقيقي، ويتحدد مقدار نضجه الحسي والأخلاقي والإنساني. هذا التناقض هو ما يصنع جوهر التجربة الإنسانية، ويكشف عن معدن الإنسان حين تُختبر القيم وتُقاس المواقف.
وفي هذا السياق يجب أن نفرق أنه ليس من المطلوب إلغاء حب الذات وعدم السعي نحو تحقيق الطموحات الشخصية، ولكن وجب الوعي بأن الإنسانية هي التي تضع هذا الحب في إطاره الصحيح، بحيث لا يتحول إلى جشع يتسبب في ظلم الآخرين أو الاستيلاء على ما هو ليس من نصيبك.
ففي زمن تتسارع فيه وتيرة الحياة وتضيق فيه المسافات والفرص، غدونا بحاجة ماسة إلى استعادة إنسانيتنا، وإلى أن نُعيد للقيم معناها، وأن نحافظ على أصالة أخلاقنا، وأن نكسو قلوبنا دفئا ورحمة، وأن نطلق ضمائرنا بصوت الحق، فالعالم لا ينهض بالعقول اللامعة والعبقرية وحدها، بل بالقلوب الرحيمة المتسامحة التي تعرف أن الخير باق ومستدام طالما أن الإنسانية نابضة في قلوب البشر.
فالإنسانية هي الرحمة حين تُترجم إلى فعل، وهي الإيثار حين يكون العطاء خياراً لا التزاماً. وهي أن ترى في وجع الآخرين مسؤولية مشتركة، وأن تؤمن بأن كرامة الإنسان حق أصيل لا يتجزأ. فبقدر ما نتقاسم الألم، نصنع عالماً أكثر عدلاً، وبقدر ما نمد أيدينا للخير، نزداد إنسانية، فبها تزدهر العدالة، وتعلو كرامة الإنسان.
* مترجمة وكاتبة وفنانة تشكيلية