تشغلنا أحياناً بعض الأسئلة التي تتحدَّى تفكيرنا ولا نجد لها إجابات منطقية، هل العلم نقيض الوعي؟ وهل يتراجع الوعي كلما زاد العلم؟ وما مصير العالم بتراجع الوعي؟ وما شكل المستقبل القريب والمتوسط مع كل هذا التقدُّم السريع في العلم؟ وهل سيغيب التخطيط للمستقبل البعيد، بعد أن أصبح دوران عجلة العلم سريعاً بصورة مبالغ فيها، بحيث لم يعد المستقبل البعيد قابلاً للتخطيط منذ الآن، بسبب التغييرات المستقبلية القريبة الخارجة عن سيطرة التفكير؟

إن أقرب تشبيه لغياب الوعي الذي سيعم العالم هو فقدان الإنسان العادي لوعيه، نتيجة النوم، أو لإصابة في الرأس. 

Ad

أذكر أن صديقاً لي قاد سيارته من منزله في الأحمدي إلى ميناء الشعيبة، حيث مقر عمله، وهو شبه نائم، إن لم يكن نائماً تماماً. ومع ذلك، فقد وصل بسلام. ولعل هيمنة العلم في هذه الفترة والفترة القريبة القادمة ستقود العالم إلى نتيجة شبيهة بقيادة صديقي لسيارته، غياب الوعي، وحضور البرمجة الذاتية الآلية لنظام العمل.

فنجاح «بلاك روك»، مثلاً، لا يعود لموظفيها العباقرة، بل لمؤسسها ومديرها التنفيذي لاري فينك، الذي اعتمد على التحليل الآلي للسوق، وعلى ذكاء «السوفت وير». أما الموظفون، فمجرَّد مشغلين للنظام، يزودونه بالجديد، ويتسلمون النتائج، لتتخذ الإدارة العليا القرار المنطقي في حركة البيع والشراء.

هذا النظام الناجح، الذي تعمل به شركة بلاك روك، والذي حقق نجاحاً عجيباً وجذب أموالاً كبرى يبحث أصحابها (دولاً، وكيانات تجارية، وأفراداً) عن استثمار يُزاوج بين العائد المالي والأمان، جعل الكيانات الاستثمارية الكبيرة تسعى لتحويل نظام عملها الداخلي إلى شكلٍ مشابه لما تعمل به «بلاك روك»، ويشبه طريقة قيادة صديقي لسيارته، غياب الوعي، وحضور البرمجة الذاتية الآلية.

ومن هنا، أنا لا أتوقع أي أزمة اقتصادية تواجه العالم مستقبلاً إلا إذا تدخل الوعي في العمل الذاتي الآلي للعالم، سواء بنية صنع الإيجاب، أو بنية التخريب. وبالتالي، فإن انهيار «بلاك روك»، مثلاً، يعني انهيار اقتصاد العالم، وحاجته إلى سنوات طويلة للتعافي، باعتبار أن انهيار «بلاك روك» لا يعني تبخُّر تريليونات المودعين فقط، بل يعني انهيار منظومة عالمية آلية جديدة (Administrative model) تعمل بلا وعي، وأشبه بالرجل النائم أو فاقد الوعي الذي يتوقف قلبه عن العمل بعد طول مرض.

إن برمجة العالم ذاتياً وتغييبه عن الوعي يقوده إلى مركزية القيادة الواعية، وهي حالة مُخيفة لا تبشر بخير، فمجرَّد نجاح هذه البرمجة، اقتصادياً، وسياسياً، فإن ذلك يسهِّل لمن يُدير النظام الآلي، وهو بالتأكيد واعٍ (سواء كان يُوظف وعيه للخير أو للشر)، يُتيح له التحكم بمصير العالم كيف يشاء، ويقوده وفق قناعاته ورغباته ومصالحه بأي اتجاهٍ يشاء.

ولأن سوق العمل لن يحتاج للوعي في الفترة القادمة، فإن عدد الواعين سيتراجع تدريجياً في العالم، وسيعاني الواعون الحاليون بطالة مؤكدة، باعتبار أن سوق العمل سيكون بحاجة إلى موظفين فقط، وباعتبار أن المستشار الآلي سيكون أقدر على كسب ثقة القيادات الإدارية والسياسية حول العالم. لذا، فإن الجودة حول العالم ستتراجع، خصوصاً في حقلَي السياسة والاقتصاد، بسبب التحوُّل العالمي من النماذج النوعية إلى نماذج كمية مستحدثة.