​كانت ترى الوجوه...تحفظ الأسماء... وتُبحر مع العقول. 

​أما اليوم، فالسبورة نفسها أصبحت مجرد شاشة صمّاء، تُعرض عليها شرائح بلا معنى، وتختبئ خلفها نظرات غائبة... وعقول مشغولة بأجهزة أخرى.

Ad

​ما عادت السبورة تلمح ابتسامة طالب، ولا حتى نظرة استيعاب. كل ما تراه هو ظهور منحنية، ووجوه تائهة، وأصابع تضغط على الشاشات أكثر مما ترفع لتسأل. المعلم حاضر، لكنه يشرح لطلبة يكتبون الملاحظات دون أن يسمعوه.

​يقول أحدهم: «نُكرّم المعلم في أكتوبر... ونُقصيه باقي الشهور!» نعم، فقد صار صوت المعلم في الخلفية مثل الموسيقى في مقهى مزدحم: موجود لكنه لا يُنصت إليه.

​قبل سنوات، كانت المدارس مليئة بضجيج الأسئلة، بنقاشات الصف، بحركات العيون بين الطلاب والسبورة. أما اليوم فكأن الفصل غرفة صامتة، فيها شاشة تعرض، ومعلم يتحدث، وطلبة ينتظرون «الملخص في القروب».

​ليست أزمة أدوات بل أزمة وجود. التعليم لم يعد لقاءً بل بثاً. والمعلم لم يعد مرشداً... بل ناقل شرائح.

في أحد اللقاءات التربوية، قالت معلمة بعد 30 سنة من الخبرة: «لم أعد أرى في عيون طلبتي سؤالاً... فقط انتظار الإجابة!».

​لقد صارت السبورة اليوم وسيلة لعرض المعلومات، لا لاكتشاف الأفكار. وغاب ذلك الحضور الإنساني العميق الذي يصنعه تواصل العين، ونبض الكلمة، وحدس المعلم حين يشعر أن أحدهم لم يفهم، حتى لو لم يتكلم.

​دراسة نُشرت في Journal of Educational Psychology (2023) كشفت أن أكثر من 64 في المئة من المعلمين بالمدارس الرقمية يشعرون ب «الاغتراب الوظيفي»، ويفقدون الإحساس بتأثيرهم في الصف.

​وهذا الاغتراب لا يُقاس بالتكنولوجيا فقط، بل بانقطاع «الدفء» من الفصول الدراسية. ولذلك، فإن إعادة النظر في العلاقة الصفية ليست ترفاً بل ضرورة.

​في فنلندا، قامت بعض المدارس بإلغاء السبورات الرقمية مؤقتاً، وعادت إلى نماذج التفاعل الوجهي والمجموعات الصغيرة. والنتيجة كانت تحسّن الأداء المدرسي بنسبة 18 في المئة، وزاد تفاعل الطلبة بنسبة 35 في المئة خلال ثلاثة أشهر.

​إن كنتم تُكرّمون المعلم فأعيدوا له السبورة التي ترى، والصوت الذي يُسمع، والدور الذي يُحترم. فليس تكريم المعلم لوحة شكر بل بيئة تُنصت له، وتُؤمن بدوره، وتُعيد له مكانته.

ربما... آن الأوان لنُعيد ترتيب الفصل. لا الكراسي، بل العلاقة بين الوجوه والقلوب.

​إن إعادة روح الصف لا تتطلب ميزانيات، بل تتطلب وعياً. وعياً بأن التعليم الحقيقي ليس مجرد «إتمام منهج»، بل بناء إنسان. وعياً بأن السبورة ليست لوحة، بل مرآة لما نؤمن به. فهل نُعيد لها الحياة...أم نبقيها مجرد أداة إلكترونية أخرى؟

ربما نحتاج أن نعيد للسبورة بصرها... لا بتقنية جديدة، بل بعين المعلم الذي يراهم، وقلب المدرسة الذي يسمعهم.

​إن احترام المعلم لا يأتي من «هاشتاق» موسمي، بل من استعادة رسالته. من تقدير صمته حين يتأمل، وكلمته حين يُشعل فهماً، ووقوفه حين يفتح باباً جديداً في عقل طالب. فإذا كانت السبورة قد انطفأت... فربما يجب أن نُضيء نحن من جديد.