في كل مجموعة صديقات هناك تلك التي لا تستطيع أن تمر عشر دقائق دون أن تذكّرنا أنها مهندسة، سواء كنا نتحدث عن فيلم أو أكلة شعبية سينتهي الحديث دائماً بجملة «على فكرة أنا مهندسة».
لكن يبدو أن الزمن قرر أن يرد عليها، فاليوم ظهرت آلة عملاقة تبني بشكل أسرع وأدق، وتطبع ما كان المهندس يرسمه على الورق.
هذا المشهد ليس في فيلم خيال علمي بل يحدث الآن، حيث تقف أكبر طابعة إنشاءات ثلاثية الأبعاد في العالم لتبني مدرسة كاملة خلال ثمانية وثلاثين يوماً، نعم مدارس حقيقية يدخلها الطلبة ويمشون في ممراتها وليست نماذج مصغرة للعرض، بينما يجلس المهندس خلف الشاشة يحتسي قهوته ويراقب الطابعة في صمت تام، فالآلة تنفذ وتبني على الأرض.
هذه القصة الحقيقية هو مشروع طموح تقوده هيئة الأشغال العامة القطرية بالتعاون مع شركاء دوليين، وبدأت العمل فيه على أرض الواقع لبناء مجموعة مدارس على أن يتم التوسع لاحقاً في عدة مشاريع حكومية.
التاريخ يقول إن الابتكارات الكبرى تبدأ بفكرة جريئة واحدة، وما تفعله دولة قطر اليوم هو بالضبط تلك الجرأة، فلم تكتفِ بالحديث عن المستقبل بل باشرت في طباعته، فبينما تنشغل دول أخرى بمناقشة الجدوى والبيروقراطية، اختارت هي أن تبدأ ثورة هادئة تدخل بها إلى المستقبل بريادة الطابعات العملاقة، وهذا بالضبط ما يجعل هذه التجربة مميزة وملهمة.
وفي الوقت الذي ما زالت فيه دولٌ تتجادل حول التكلفة والمخاطر، قررت قطر أن تفعل ما هو أبسط وأكثر شجاعة، أن تضغط زر «ابدأ الطباعة» وهذه هي القيادة الحقيقية، أن تدخل المستقبل بالفعل لا بالنية، وأن تصنع التغيير بدلاً من أن تنتظره.
من مميزات الطابعة أنها تخفض استهلاك المواد بنسبة 60 في المئة، وتقلل الانبعاثات الكربونية، وتنجز العمل بسرعة فائقة، وتقلل الجهد البدني اللازم للبناء.
إن ما يثير الإعجاب أكثر هو الإمكانات الإنسانية خلف تبني هذه الفكرة، بهذه التقنية، إذا تبنّتها الدول والمنظمات الخيرية، ستتغير قواعد العمل الإنساني، تخيل أن تُستخدَم لطباعة منازل اللاجئين خلال أسابيع، أو لبناء مدارس في المناطق المنكوبة دون الحاجة إلى جيوش من العمال، عندما تتحول التكنولوجيا من رفاهية إلى رسالة أخلاقية وإنسانية لأن الطابعة التي تبني اليوم في الدوحة يمكن أن تعيد إعمار العالم من جديد غداً.
حينها ستصبح المساعدات مطبوعة، وتتحول عبارة «إعادة الإعمار» من وعد سياسي إلى إجراء عملي، وعندما يتم تمكين الدول النامية بهذه التقنية تتقلص فجوة الإسكان، ويتحول البناء من عائق مزمن ومكلف إلى قرار رقمي قابل للتنفيذ.
الطابعة العملاقة لا تغير طريقة البناء فقط بل قد تغير المهن نفسها، فربما سيأتي يوم نسمع فيه عن تخصص جامعي جديد اسمه «هندسة الطباعة الإنشائية» أو «فن صيانة الطابعة الخرسانية».
مازلت مؤمنة بأن الطابعة أو أي أداة ذكاء اصطناعي لن تستبدل الإنسان بل ستعيد تشكيل الواقع الجديد إلى مهن جديدة وأفكار مبتكرة، وسيقف خلف الآلة والتوجيه إنسان بفكر إبداعي، ولأنه قد تعاتبنا صديقتنا المهندسة على هذا المقال وتحرمنا من ألذ «مجبوس لحم» تُعِدّه، فتحية من المستقبل للمهندسات والمهندسين الذين يرسمون الحلم قبل أن يضغطوا على زر «ابدأ الطباعة».
* يُنشَر بالتزامن مع صحيفتي سبق السعودية والشرق القطرية