في عصرٍ تتشابك فيه هوياتنا مع بصماتنا الرقمية، من بريد إلكتروني وحسابات تواصل اجتماعي إلى محافظ العملات المشفرة والأصول غير الملموسة، يبرز تحدٍّ قانوني وإنساني جديد يُعرف بـ «الإرث الرقمي». هذه التركة الحديثة، التي تشمل كل ما يملكه الفرد في العالم الافتراضي، تقف اليوم في منطقة رمادية، خارج إطار قوانين الميراث التقليدية في العديد من الدول، بما فيها الكويت.

يثير هذا الفراغ التشريعي معضلات معقدة للورثة، فكيف يمكن الوصول إلى محفظة رقمية دون كلمة مرور؟ وما مصير الأرصدة الإلكترونية والصور المخزنة سحابياً إذا رفضت المنصات الرقمية التعاون مع الورثة لعدم وجود «وصية رقمية» واضحة؟ والأهم من ذلك، كيف نوازن بين حق الورثة في الميراث وحق المتوفى في الخصوصية؟

Ad

****

تفتقر القوانين الحالية في الكويت، المعنية بحماية البيانات الشخصية والمعاملات الإلكترونية، إلى أي نصوص تنظم انتقال الأصول الرقمية بعد الوفاة، حيث تركز هذه التشريعات بشكل حصري على خصوصية الأحياء، متجاهلةً مرحلة ما بعد الموت.

هذا الفراغ القانوني يُجبر الورثة على التعامل مباشرة مع الشركات التقنية، التي تطبق سياساتها الخاصة والمختلفة. شركة «فيسبوك» مثلاً تتيح تحويل الحساب لصفحة ذكرى أو تعيين «وصي رقمي»، بينما تسمح «غوغل» بتحديد مصير البيانات عبر «مدير الحساب غير النشط»، في حين توفر «آبل» ميزة «Legacy Contact» التي تمنح أشخاصاً محددين حق الوصول إلى بيانات iCloud بعد الوفاة.

****

تجارب القانون المقارن في مجال «الإرث الرقمي» تستحق النظر والتوقف عندها. ففي فرنسا مثلاً، أدخل «قانون الجمهورية الرقمية» الصادر في 7/10/2016 مفهوم «الوفاة الرقمية» وأتاح للأفراد تحديد مصير بياناتهم بعد الوفاة، سواء بحذفها أو نقلها إلى الورثة عبر تعليمات رقمية مسبقة.

بدوره ينظم القانون الأميركي في أكثر من ولاية، ومنها كاليفورنيا، الإرث الرقمي عبر «قانون الوصول إلى حسابات المتوفين الرقمية RUFADAA، الذي يقرّ للورثة أو للموصى لهم سلطة الوصول أو إدارة الحسابات الرقمية أو تحويلها إلى صفحات تذكارية، بشرط توفر وصية أو إذن رسمي. وفي السياق أصدرت المحكمة الاتحادية الألمانية عام 2018 حكماً بارزاً سمح لوالدة فتاة متوفاة بالوصول إلى حسابها في «فيسبوك»، معتبرة أن الرسائل الإلكترونية تُعامل كالرسائل الورقية في القانون.

****

هذه النماذج من التجارب المقارنة تؤكد أن مسألة الإرث الرقمي لم تعد ترفاً تشريعياً، بل ضرورة عملية وأخلاقية. فالكويت التي تخطو نحو التحول الرقمي الشامل بحاجة إلى إطار قانوني ينظم التعامل مع هذه التركات الحديثة، سواء عبر نظام «الوصية الرقمية» أو من خلال منصة وطنية تحفظ البيانات وتُفعّلها قانونياً عند الوفاة، تجنباً للجوء إلى سياسات الشركات الأجنبية أو ضياع حقوق الورثة.

وفي جميع الأحول فإن الوعي بالإرث الرقمي مسؤولية فردية قبل أن يكون شأناً تشريعياً. فمن الحكمة أن يحتفظ كل شخص بسجل آمن يضم بياناته وأصوله الرقمية، وأن يحدد مسبقاً مَنْ يحق له إدارتها بعد وفاته. فكما نخطط لوصايانا المالية والممتلكات المادية، يجدر بنا أن نخطط لميراثنا الرقمي الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من هويتنا الحديثة. إن حماية هذا الإرث هي حماية لذاكرتنا، ولحقوق مَنْ نحب، وضمان لأن يبقى حضورنا في العالم الافتراضي إرثاً متفاعلاً لا نصباً جامداً يخلد ذكرانا.

* كاتب ومستشار قانوني